قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("حاشا"
لها ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون فعلاً ماضياً، بمعنى استثنى، ومضارعها "أحاشي". كقول النابغة: ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وحكى ابن سيده أن حاشيت بمعنى: استثنيت، و"أحاشي" بمعنى: أستثني. ولا إشكال في فعلية هذه.
الثاني: أن تكون للتنزيه. كقوله: "حاشى" لزيد. و"حاشى" هذه ليس معناها الاستثناء، بل معناها التنزيه عما لا يليق بالمذكور. وقد يراد به تنزيه اسم، فيبتدرون تنزيه اسم الله تعالى، على جهة التعجب، والإنكار على من ذكر السوء فيمن لم يروه منه. و"حاشى" هذه - أعني التي للتنزيه - ليست حرفاً، بلا خلاف. كذا قال ابن مالك. وفيها قولان:
أحدهما أنها فعل. وهو قول المبرد، والكوفيين. وبه قال ابن جني، وغيره، في قوله تعالى: {وقلن: حاشى لله}. واستدلوا على فعليتها، بدخولها على الحرف، وبالتصرف فيها بالحذف. قلت: وهذان الوجهان يدلان على انتفاء حرفيتها - أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الحذف من الحروف قليل - ولكنهما لا يدلان على الفعلية، لأن الاسم يشارك الفعل، في هذين الأمرين.
ثم اختلف القائلون بفعليتها. فقال أكثرهم: فيها ضمير الفاعل. قدره بعضهم: "حاشى" يوسف نفسه من الفاحشة لله. وقيل: "حاشى" يوسف الفعلة لأجل الله. وهو بمعناه. وقال ابن عطية: "حاشى" يوسف لطاعته لله، أو لمكانته عند الله، أو لترفيع الله له أن يرمى بما رمته به، أو يدعى إلى مثله. لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك.
وقال الفراء: "حاشى" فعل، ولا فاعل له. فإذا قلت: "حاشى" لله، "فاللام" موصولة بمعنى الفعل، والخفض بها. وإذا قلت: "حاشى" الله، بحذف "اللام"، "فاللام" مرادة، والخفض بها. وهذا قول ظاهر الضعف.
وثانيهما أنها اسم. وهو ظاهر قول الزجاج. وصححه ابن مالك.
قال: الصحيح أنها اسم منتصب انتصاب المصدر، الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل. فمن قال: "حاشى" لله، فكأنه قال: تنزيهاً لله. ويؤيد هذا قراءة أبي السمال ["حاشى" لله] بالتنوين. فهذا مثل قولهم: رعياً لزيد. وقراءة ابن مسعود ["حاشى" الله] بالإضافة. فهذا مثل: سبحان الله، ومعاذ الله. وقال الزمخشري في المفصل: وقولهم "حاشى" لله بمعنى براءة لله من السوء.
قلت: وخرج ابن عطية قراءة ابن مسعود على أنها "حاشا" الجارة. فإن قلت: إذا قلنا باسمية "حاشى" فما وجه ترك التنوين، في قراءة الجماعة، وهي غير مضافة؟ قلت: قال ابن مالك: الوجه فيها أن يكون "حاشى" مبنياً، لشبهه "بحاشا" الذي هو حرف. فإنه شابهه لفظاً ومعنى، فجرى مجراه في البناء.
الثالث: أن تكون من أدوات الاستثناء. نحو: قام القوم "حاشا" زيد. وفيها مذاهب:
أحدهما: مذهب سيبويه، وأكثر البصريين، أنها حرف خافض، دال على الاستثناء "كإلا". ولا يجيز سيبويه النصب بها، لأنه لم يبلغه.
والثاني: أنها تكون حرفاً، فتجر، كما ذكر سيبويه. وتكون فعلاً، فتنصب. بمنزلة "خلا" و"عدا". وهذا مذهب الجرمي، والمازني، والمبر، والزجاج. وهو الصحيح، لأنه قد ثبت عن العرب الوجهان. وممن حكى النصب بها، عن العرب، أبو زيد، والفراء، والأخفش، والشياني، وابن خروف، حكى الشيباني، عن بعض العرب اللهم، اغفر لي، ولمن سمع "حاشى" الشيطان وابا الإصبع بالنصب ويروى وابن الأصبغ، وهو "بالصاد" المهملة و"الغين" المعجمة. ويروى بالوجهين قول الجميح:
حاشا أبي ثوبان، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
هكذا أنشده المبرد، والسيرافي، وكثير من النحويين. وفيه تخليط من جهة الرواية. وذلك أنهم ركبوا صدره على عجز غيره. والصواب ما أنشده المفضل:
حاشا أب ثوبان، إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة، فدم
عمرو بن عبد الله، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
واستدل المبرد على فعلية "أحاشى" بتصرفها. فتقول: حاشيت "أحاشي". قال النابغة:
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وأجيب بأن "أحاشي" يجوز أن يكون تصريف فعل، من لفظ "حاشا" الذي هو حرف يستثى به. قال بعضهم: ولا ينكر سيبويه أن ينطق بها فعلاً، في غير الاستثناء. فتكون في الاستثناء حرفاً، وفي غيره فعلاً. تقول: "حاشى" لك أن تفعل كذا. ومعناه: جانب لك السوء. ويتعدى بنفسه، و"باللام".
والثالث: أن "حاشى" فعل لا فاعل له. وإذا خفض الاسم بعده فخفضه "باللام" المقدرة. وهو مذهب الفراء، وتقدم ذكره، في القسم الثاني. وقال بعضهم: ذهب بعض الكوفيين إلى أنها فعل، استعملت استعمال الحروف، فحذف فاعلها. قلت: والظاهر أن هذا مذهب الفراء.
ويتعلق "بحاشا" التي يستثنى بها مسائل:
الأولى: إذا جر "بحاشا" فالكلام على ما يتعلق به كالكلام على ما يتعلق به "خلا" و"عدا"، وقد تقدم. وإذا نصب ففي محل الجملة الخلاف المتقدم في "خلا" و"عدا" أيضاً.
الثانية: "حاشا" تفارق "خلا" و"عدا" من وجهين:
أحدهما أن الجر "بحاشا" أكثر والآخر أن "حاشا" لا تصحب ما. قال سيبويه لو قلت: أتوني ما "حاشى" زيداً، لم يكن كلاماً. وأجازه بعضهم على قلة. وقال ابن مالك: وربما قيل ما "حاشى" وهو مسموع من كلامهم. قال الشاعر:
رأيت الناس ما حاشى قريشاً ... وأنا نحن أفضلهم فعالا
وذكر ابن مالك أن في مسند أبي أمية الطرسوسي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسامة أحب الناس إلي، ما حاشى فاطمة».
الثالثة: إذا استثني "بحاشى" ضمير المتكلم، وقصد الجر قيل "حاشاي"، كما قال الشاعر:
في فتية، جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي، إني مسلم، معذور
وإذا قصد النصب قيل "حاشاني"، "بنون" الوقاية. قال الفراء: من نصب "بحاشى" قال "حاشاني"، كما يقال عداني. قال الشاعر:
تمل الندامى، ما عداني، فإنني ... بكل الذي، يهوى نديمي، مولع
الرابعة: إذا نصب "بحاشى" فهي فعل غير متصرف، لأنها واقعة موقع "إلا"، ومؤدية معناها. فلا تتصرف كما لا تتصرف "عدا" و"خلا" و"ليس" و"لا" يكون. بل هي أحق بالمنع، لأن فيها، مع مساواتها للأربع، شبهها "بحاشا" الحرفية لفظاً ومعنى.
وزعم المبرد أن "حاشى" مضارع "حاشى" التي يستثنى بها. وقد تقدم أنه استدل بذلك على فعليتها. قال ابن مالك: وهذا غلط، وأما "أحاشي" فإنه مضارع حاشيت بمعنى: استثيت. وهو فعل متصرف، مشتق من لفظ "حاشى" المستثنى بها، كما اشتق سوفت من لفظ سوف، ولوليت من لفظ لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيهت من لفظ إيهاً. وأمثال ذلك كثيرة.
الخامسة: في "حاشى" التي يستثنى بها لغتان: "حاشى" بإثبات "الألفين"، و"حشى" بحذف "الألف" الأولى، كقول الشاعر:
حشى رهط النبي، فإن منهم ... بحوراً، لا تكدرها الدلاء
وأما التي للتنزيه ففيها ثلاث لغات: هاتان المذكورتان، و"حاش" بحذف "الألف" الثانية. وزاد في التسهيل: "حاش" بإسكان "الشين". وقد قرئ بالأربع ["حاشا" لله]: قرأ أبو عمرو "حاشا" لله "بالألف". وقرأ باقي السبعة "حاش" لله بحذفها. وقرأ بعضهم "حشى" لله بحذف "الألف" الأولى. وقرأ الحسن "حاش" لله بالإسكان. وفيه جمع بين ساكنين، على غير حده. وظاهر كلام ابن مالك في الألفية أن اللغات الثلاث في "حاشا" التي يستثنى بها. وقال غيره: إن "حاش" لم يستثن بها. والله أعلم). [الجنى الداني:558 - 568]