قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("ثم"
حرف عطف، يشرك في الحكم، ويفيد الترتيب بمهلة. فإذا قلت: قام زيد "ثم" عمرو، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة. هذا مذهب الجمهور، وما أوهم خلاف ذلك تأولوه.
وذهب الفراء، فيما حكاه عنه السيرافي، والأخفش، وقطرب، فيما حكاه أبو محمد عبد المنعم بن الفرس في مسائله الخلافيات عنه، إلى أن ثم بمنزلة "الواو"، لا ترتب. ومنه عندهم {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها}، ومعلوم أن هذا الجعل كان قبل خلقنا.
وزعم بعضهم أنها تقع موقع "الفاء"، كقول الشاعر: كهز الرديني، تحت العجاج ... جرى في الأنابيب، ثم اضطرب
أي: فاضطرب. وإليه ذهب ابن مالك؛ قال: وقد تقع "ثم" في عطف المتقدم بالزمان، اكتفاء بترتيب اللفظ. وهذا منقول عن الفراء، كقولك: بلغني ما صنعت اليوم، "ثم" ما صنعت أمس أعجب. ومن ذلك قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقال ابن عصفور: ما ذكره لفراء، من أن المقصود "بثم"ترتيب الإخبار، لا ترتيب الشيء في نفسه، وكأنه قال اسمع مني هذا الذي هو: بلغني ما صنعت اليوم، "ثم" اسمع مني هذا الخبر الآخر الذي هو: ما صنعت أمس أعجب، ليس بشيء، لأن "ثم" تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة، ولا مهلة بين الإخبارين.
فينبغي أن يحمل على ظاهره، ويكون الجد قد أتاه السؤدد من قبل الأب، وأتى الأب من قبل الابن. وذلك مما يمدح به، وإن كان الأكثر في كلامهم المدح بتوارث السودد. ويكون البيت، إذ ذاك، مثل قول ابن الرومي:
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلا، لعمري، ولكن منه شيبان
فكم أب قد علا، بابن، ذرى حسب ... كما علت، برسول الله، عدنان
قلت: ما ذكره ابن عصفور، في تأويل البيت، لا يساعد عليه قوله قبل ذلك.
وقال بعضهم: قد ترد ثم لترتيب الذكر. وهو معنى قول غيره: ترتيب الإخبار.
وقد حمل بعضهم قول تعالى: {ثم جعل منها زوجها} على أن "ثم"، في الآية، لترتيب الإخبار. وقيل: أخرج ذرية آدم، من ظهره كالذر، "ثم" خلق بعد ذلك حواء. فعلى هذا تكون "ثم" على أصلها، من الترتيب في الزمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله "ثم" جعل منها زوجها، وما تعطيه "ثم" من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان، من جملة الآيات، التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته، تشعيب هذا الخلق الفائت الحصر، من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه. إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى، غير حواء، من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع. فعطفها "بثم" على الآية الأولى للدلالة على مباينتها، فضلاً ومزية. وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية. فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.
تنبيه
ذكر صاحب رصف المباني أن "لثم" في الكلام موضعين:
الأول: أن تكون حرف عطف، يعطف مفرداً على مفرد، وجملة على جملة.
والثاني: أن تكون حرف ابتداء؛ إما أن تكون حرف ابتداء، على الاصطلاح، أي: يكون بعدها المبتدأ والخبر. وإما ابتداء كلام. فالأول نحو أن تقول: أقول لك اضرب زيداً، "ثم" أنت تترك الضرب. ومنه قول تعالى: {قل الله ينتجيكم منها ومن كل كرب. ثم أنتم تشركون}. وابتداء الكلام كقولك: هذا زيد قد خرج، "ثم" إنك تجلس. قال الله عز وجل {فتبارك الله أحسن الخالقين}، "ثم" قال بعد ذلك {ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}. وقد يرجع هذا إلى عطف الجمل، إذا كان الجملتان في كلام واحد. وذلك بحسب إرادة المتكلم. والأظهر، في الجمل، الانفصال في المراد، إلا حيث يدل الدليل على أن مقصود الكلام واحد. انتهى.
ولا يصح كونها حرف ابتداء. وإنما هي حرف عطف، تعطف جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد. والله أعلم.
فائدة:
في "ثم" أربع لغات: "ثم" وهي الأصل. و"فم" بإبدال "الثاء" "فاء". و"ثمت" "بتاء" التأنيث الساكنة. و"ثمت" "بتاء" التأنيث المتحركة. والله أعلم). [الجنى الداني:426 - 432]