قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("أم"
"أم" على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون متّصلة، وهي منحصرة في نوعين: وذلك لأنّها إمّا أن تتقدم عليها " همزة" التّسوية، نحو: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم}،{سواء علينا أجزعنا أم صبرنا}، وليس منه قول زهير: وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء
لما سيأتي أو تتقدم عليها "همزة" يطلب بها وب "أم" التّعيين، نحو: أزيد في الدّار "أم" عمرو، وإنّما سميت في النّوعين متّصلة؛ لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وتسمى أيضا معادلة لمعادلتها "للهمزة" في إفادة التّسوية في النّوع الأول، والاستفهام في النّوع الثّاني.
ويفترق النوعان من أربعة أوجه:
أولها وثانيها: أن الواقعة بعد "همزة" التّسوية لا تستحقّ جوابا؛ لأن المعنى معها ليس على الاستفهام؛ وأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب لأنّه خبر؛ وليست تلك كذلك لأن الاستفهام معها على حقيقته.
والثّالث والرّابع: أن الواقعة بعد "همزة" التّسوية لا تقع إلّا بين جملتين، ولا تكون الجملتان معها إلّا في تأويل المفردين، وتكونان فعليتين كما تقدم واسميتين كقوله:
ولست أبالي بعد فقدي مالكًا ... أموتي ناء أم هو الآن واقع
ومختلفتين نحو: {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}، و"أم" الأخرى تقع بين المفردين، وذلك هو الغالب فيها، نحو: {أأنتم أشد خلقا أم السّماء}، وبين جملتين ليستا في تأويل المفردين، وتكونان أيضا فعليتين كقوله:
فقمت للطيف مرتاعا فأرقني ... فقلت أهي سرت أم عادني حلم
وذلك على الأرجح في هي من أنّها فاعل بمحذوف يفسره سرت واسميتين كقوله:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر
الأصل أشعيث "بالهمز" في أوله والتنوين في آخره فحذفهما للضّرورة، والمعنى ما أدري أي النسبين هو الصّحيح، ومثله بيت زهير السّابق، والّذي غلط ابن الشجري حتّى جعله من النّوع الأول توهمه أن معنى الاستفهام فيه غير مقصود البتّة لمنافاته لفعل الدّراية، وجوابه أن معنى قولك علمت أزيد قائم علمت جواب أزيد قائم، وكذلك ما علمت وبين المختلفتين نحو: {أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون}، وذلك أيضا على الأرجح من كون أنتم فاعلا.
مسألة
"أم" المتّصلة الّتي تستحقّ الجواب إنّما تجاب بالتّعيين لأنّها سؤال عنه، فإذا قيل أزيد عندك "أم" عمرو؟ قيل في الجواب زيد، "أو" قيل عمرو، ولا يقال "لا" ولا "نعم" فإن قلت فقد قال ذو الرمة:
تقول عجوز مدرجي متروحا ... على بابها من عند أهلي وغاديا
أذو زوجه بالمصر أم ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها لا إن أهلي جيرة ... لاكثبه الدهنا جميعًا وماليا
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أراجع فيها يابنة القوم قاضيا
قلت ليس قوله لا جوابا لسؤالها بل رد لما توهمته من وقوع أحد الأمرين كونه ذا زوجة وكونه ذا خصومة، ولهذا لم يكتف بقوله لا إذ كان رد ما لم تلفظ به إنّما يكون بالكلام التّام، فلهذا قال إن أهلي جيرة البيت، وما كنت مذ أبصرتني البيت.
مسألة
إذا عطفت بعد "الهمزة" "بأو" فإن كانت "همزة" التّسوية لم يجز قياسا، وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا سواء كان كذا أو كذا، وهو نظير قولهم يجب أقل الأمرين من كذا أو كذا، والصّواب العطف في الأول "بأم"، وفي الثّاني "بالواو"، وفي الصّحاح تقول سواء عليّ قمت "أو" قعدت انتهى، ولم يذكر غير ذلك وهو سهو، وفي كامل الهذليّ أن ابن محيصن قرأ من طريق الزّعفراني: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، وهذا من الشذوذ بمكان وإن كانت "همزة" الاستفهام جاز قياسا، وكان الجواب "بنعم" أو "بلا"، وذلك أنه إذا قيل أزيد عندك "أو" عمرو؟ فالمعنى أأحدهما عندك "أم" لا؟ فإن أجبت بالتّعيين صحّ لأنّه جواب وزيادة، ويقال آلحسن أو الحسين أفضل "أم" ابن الحنفيّة؟ فتعطف الأول "بأو" والثّاني "بأم"، ويجاب عندنا بقولك أحدهما وعند الكيسانية بابن الحنفيّة، ولا يجوز أن تجيب بقولك الحسن أو بقولك الحسين؛ لأنّه لم يسأل عن الأفضل من الحسن وابن الحنفيّة ولا من الحسين وابن الحنفيّة، وإنّما جعل واحدًا منهما لا بعينه قرينا لابن الحنفيّة، فكأنّه قال أأحدهما أفضل "أم" ابن الحنفيّة؟
مسألة
سمع حذف "أم" المتّصلة ومعطوفها كقول الهذليّ:
دعاني إليها القلب إنّي لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها
تقديره "أم" غي كذا قالوا وفيه بحث كما مر، وأجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها، فقال في قوله تعالى: {أفلا تبصرون أم}، إن الوقف هنا وإن التّقدير "أم" تبصرون ثمّ يبتدأ {أنا خير} وهذا باطل، إذ لم يسمع حذف معطوف بدون عاطفه، وإنّما المعطوف جملة {أنا خير}، ووجه المعادلة بينها وبين الجملة قبلها أن الأصل "أم" تبصرون، ثمّ أقيمت الاسمية مقام الفعلية، والسّبب مقام المسبّب؛ لأنهم إذا قالوا له أنت خير كانوا عنده بصراء، وهذا معنى كلام سيبويه فإن قلت فإنّهم يقولون أتفعل هذا "أم" لا؟ والأصل "أم" لا تفعل؟ قلت إنّما وقع الحذف بعد "لا"، ولم يقع العاطف وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا، وتقوم هي في اللّفظ مقام تلك الجمل فكأن الجملة هنا مذكورة لوجود ما يغني عنها، وأجاز الزّمخشريّ وحده حذف ما عطفت عليه "أم"، فقال في: {أم كنتم شهداء} يجوز كون "أم" متّصلة على أن الخطاب لليهود، وحذف معادلها أي أتدعون على الأنبياء اليهوديّة "أم" كنتم شهداء، وجوز ذلك الواحدي أيضا وقدر أبلغكم ما تنسبون إلى يعقوب من إيصائه بنيه باليهودية "أم" كنتم شهداء انتهى.
2 - الوجه الثّاني: أن تكون منقطعة، وهي ثلاثة أنواع مسبوقة بالخبر المحض، نحو: {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه}، ومسبوقة "بهمزة" لغير استفهام، نحو: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها}، إذ "الهمزة" في ذلك للإنكار، فهي بمنزلة النّفي، والمتصلة لا تقع بعده ومسبوقة باستفهام بغير "الهمزة"، نحو: {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}، ومعنى "أم" المنقطعة الّذي لا يفارقها الإضراب، ثمّ تارة تكون له مجردا وتارة تتضمّن مع ذلك استفهاما إنكاريا أو استفهاما طلبيا، فمن الأول:{هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنور أم جعلوا لله شركاء}.
أما الأولى فلأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، وأما الثّانية فلأن المعنى على الإخبار عنهم باعتقاد الشّركاء، قال الفراء يقولون هل لك قبلنا حق "أم" أنت رجل ظالم؟ يريدون "بل" أنت.
ومن الثّاني: {أم له البنات ولكم البنون}، تقديره: "بل" أله البنات ولكم البنون، إذ لو قدرت للإضراب المحض لزم المحال.
ومن الثّالث: قولهم إنّها لإبل "أم" شاء التّقدير "بل" أهي شاء، وزعم أبو عبيدة أنّها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرّد، فقال في قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
إن المعنى هل رأيت؟ ونقل ابن الشجري عن جميع البصريين أنّها أبدا بمعنى "بل" و"الهمزة" جميعًا، وأن الكوفيّين خالفوهم في ذلك،
والّذي يظهر لي قولهم إذ المعنى في نحو:{أم جعلوا لله شركاء}، ليس على الاستفهام؛ ولأنّه يلزم البصريين دعوى التوكيد في نحو: {أم هل تستوي الظّلمات}، ونحو: {أم ماذا كنتم تعملون} ، {أم من هذا الّذي هو جند لكم}، وقوله:
أنى جزوا عامرًا سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللّبن
العلوق بفتح "العين" المهملة النّاقة الّتي علق قلبها بولدها، وذلك أنه ينحر ثمّ يحشى جلده تبنا، ويجعل بين يديها لتشمه فتدر عليه، فهي تسكن إليه مرّة وتنفر عنه أخرى، وهذا البيت ينشد لمن يعد بالجميل ولا يفعله لانطواء قلبه على ضدّه، وقد أنشده الكسائي في مجلس الرشيد بحضرة الأصمعي، فرفع رئمان فرده عليه الأصمعي، وقال إنّه بالنّصب، فقال له الكسائي اسكت ما أنت، وهذا يجوز الرّفع والنّصب والجر، فسكت ووجهه أن الرّفع على الإبدال من "ما"، والنّصب بتعطي، والخفض بدل من "الهاء"، وصوب ابن الشجري إنكار الأصمعي، فقال لأن رئمانها للبو بأنفها هو عطيتها إيّاه لا عطيّة لها غيره، فإذا رفع لم يبق لها عطيّة في البيت؛ لأن في رفعه إخلاء تعطي من مفعوله لفظا وتقديرا، والجر أقرب إلى الصّواب قليلا، وإنّما حق الإعراب والمعنى النصب، وعلى الرّفع فيحتاج إلى تقدير ضمير راجع إلى المبدل منه، أي: رئمان أنف له، والضّمير في بفعلهم لعامر؛ لأن المراد به القبيلة، ومن بمعنى البدل مثلها في أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة، وأنكر ذلك بعضهم وزعم أن من متعلقة بكلمة البدل محذوفة، ونظير هذه الحكاية أن ثعلبا كان يأتي الرياشي ليسمع منه الشّعر، فقال له الرياشي يومًا كيف تروي بازل من قوله:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمّي ...
فقال ثعلب ألمثلي تقول هذا إنّما أصير إليك لهذا المقطعات، والخرافات يروى البيت بالرّفع على الاستئناف، وبالخفض على الإتباع، وبالنّصب على الحال، ولا تدخل "أم" المنقطعة على مفرد، ولهذا قدروا المبتدأ في إنّها لإبل "أم" شاء، وخرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النّحويين، فقال لا حاجة إلى تقدير مبتدأ، وزعم أنّها تعطف المفردات كـ "بل"، وقدرها هنا "ببل" دون "الهمزة"، واستدلّ بقول بعضهم إن هناك لإبلا "أم" شاء بالنّصب، فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب، أي: "أم" أرى شاء.
تنبيه
قد ترد "أم" محتملة للاتصال والانقطاع، فمن ذلك قوله تعالى: {قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون}، قال الزّمخشريّ: يجوز في "أم" أن تكون معادلة بمعنى "أي" الأمرين كائن على سبيل التّقرير لحصول العلم بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة انتهى.
ومن ذلك قول المتنبي:أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
فإن قدرتها فيه متّصلة فالمعنى أنه استطال اللّيلة فشك أواحدة هي "أم" ستّ اجتمعت في واحدة فطلب التّعيين، وهذا من تجاهل العارف كقوله:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف
وعلى هذا فيكون قد حذف "الهمزة" قبل أحاد، ويكون تقديم الخبر وهو أحاد على المبتدأ، وهو لييلتنا تقديمًا واجبا لكونه المقصود بالاستفهام مع سداس إذ شرط "الهمزة" المعادلة "لأم" أن يليها أحد الأمرين المطلوب تعيين أحدهما، ويلي "أم" المعادل الآخر ليفهم السّامع من أول الأمر الشّيء المطلوب تعيينه، تقول: إذا استفهمت عن تعيين المبتدأ، أزيد قائم "أم" عمرو؟ وإن شئت أزيد "أم" عمرو قائم؟ وإذا استفهمت عن تعيين الخبر أقائم زيد "أم" قاعد؟ وإن شئت أقائم "أم" قاعد زيد؟ وإن قدرتها منقطعة فالمعنى أنه أخبر عن ليلته بأنّها ليلة واحدة، ثمّ نظر إلى طولها فشك فجزم بأنّها ستّ في ليلة، فأضرب "أو" شكّ هل هي ستّ في ليلة "أم" لا؟ فأضرب واستفهم وعلى هذا فلا "همزة" مقدرة، ويكون تقديم أحاد ليس على الوجوب إذ الكلام خبر، وأظهر الوجهين الاتّصال لسلامته من الاحتياج إلى تقدير مبتدأ يكون سداس خبرا عنه في وجه الانقطاع، كما لزم عند الجمهور في إنّها لإبل "أم" شاء، ومن الاعتراض بجملة "أم" هي سداس بين الخبر وهو أحاد، والمبتدأ وهو ليلتنا ومن الإخبار عن اللّيلة الواحدة بأنّها ليلة فإن ذلك معلوم لا فائدة فيه، ولك أن تعارض الأول بأنّه يلزم في الاتّصال حذف "همزة" الاستفهام، وهو قليل بخلاف حذف المبتدأ، واعلم أن هذا البيت اشتمل على لحنات استعمال أحاد، وسداس بمعنى واحدة وست، وإنّما هما بمعنى واحدة واحدة وست ستّ، واستعمال سداس وأكثرهم يأباه، ويخص العدد المعدول بما دون الخمسة، وتصغير ليلة على لييلة، وإنّما صغرتها العرب على لييلية بزيادة "الياء" على غير قياس، حتّى قيل إنّها مبنيّة على ليلاة في نحو قول الشّاعر:
في كل ما يوم وكل ليلاه ...
وممّا قد يستشكل فيه أنه جمع بين متنافيين استطالة اللّيلة وتصغيرها، وبعضهم يثبت مجيء التصغير للتعظيم، كقوله: دويهية تصفر منها الأنامل ...
3 - الثّالث: أن تقع زائدة ذكره أبو زيد، وقال في قوله تعالى: {أفلا تبصرون أم أنا خير}، إن التّقدير: أفلا تبصرون أنا خير، والزّيادة ظاهرة في قول ساعدة بن جؤية:
يا ليت شعري ولا منجى من الهرم ... أم هل على العيش بعد الشيب من دم
4 - الرّابع: أن تكون للتعريف نقلت عن طيئ وعن حمير، وأنشدوا:
ذاك خليلي وذو يواصلني ... يرمي ورائي بامسهم وامسلمه
وفي الحديث ليس من امبر امصيام في امسفر كذا رواه النمر بن تولب رضي الله عنه، وقيل إن هذه اللّغة مختصّة بالأسماء الّتي لا تدغم "لام" التّعريف في أولها، نحو: غلام وكتاب بخلاف رجل وناس ولباس، وحكى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع في بلادهم من يقول خذ الرمح واركب امفرس، ولعلّ ذلك لغة لبعضهم لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السّابق وأنّها في الحديث دخلت على النّوعين). [مغني اللبيب: 1 / 265 - 309]