باب: الأصل في «الذي» واللغات فيها
قال أبو الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ): (باب: الأصل في «الذي» واللغات فيها اعلم أن أصل «الذي» على مذهب سيبويه وسائر البصريين «لذي» على وزن «عمي» و«شجي» ونحوهما، و«عم» و«شج» اسم الفاعل من «عمي يعمى»، و«شجي يشجى» ووزن «لذي فعل»، وأن الألف واللام دخلتا عليها للتعريف، والدليل على ذلك أنك تقول: «الذي قام زيد»، فهذا التشديد الذي في اللام يدل على أن أصلها «لذي»، وأن الألف واللام دخلتا على حرفٍ من نفس الكلمة، فأدغمت اللام التي جاءت مع الألف في اللام التي في قولك: «لذي».
وقال الفراء: أصل «الذي: ذا» التي هي إشارة إلى ما بحضرتك، ثم تقلب من الحضرة إلى الغيبة، ودخلت عليها الألف واللام للتعريف وحطت ألفها إلى الياء ليفرق بين الإشارة إلى الحاضر والغائب.
وأما اللغات فيها فللعرب فيها خمس لغات:
منهم من يقول: «الذي» وهي اللغة العليا.
منهم من يقول: «اللذ»، بحذف الياء وكسر الذال.
قال الشاعر:
واللذ لو شاء لكانت برًا = أو جبلًا أصم مشمخرًا
ومنهم من يقول: «اللذ» بحذف الياء وإسكان الذال.
وقال الشاعر:
فظلت في شرٍ من اللذ كيدًا = كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا
ومنهم من يقول: «الذي قام زيدٌ» بتشديد الياء.
قال الشاعر:
وليس المال فاعلمه بمالٍ = وإن أغناك إلا للذي
يريد به العلاء ويمتهنه = لأقرب أقربيه وللقصي
ويروي: «ويصطفيه».
ومنهم من يقيم مقام «الذي: ذو»، ومقام «التي: ذات» وهي لغة طيء، فيقولون: «ذو قام زيد»: يعني: الذي قام زيد، و«ذات قامت هند» بمعنى: التي قامت هند، قال الشاعر:
فإن بيت تميمٍ ذو سمعت به = فيه تنمت وأرست عزها مضر
ويجعل هؤلاء «ذو» رفعًا في كل حالٍ موحدًا في التثنية والجمع فيقولون: «جاءني ذو قال ذاك»، و«رأيت ذو قال ذاك»، و«مررت بذو قال ذاك»، و«ذو قال ذاك الزيدان»، و«ذو قال ذاك الزيدون»، وكذلك «ذات» في المؤنث، وقال الفراء:
سمعت بعضهم يقول: «بالفضل ذو فضلكم الله به، وبالكرامة ذات أكرمكم الله به»، يريد: «بها» فلما أسقط الألف جعل الفتحة التي كانت في الهاء في الباء عوضًا منها.
ومنهم من يجعل «ذو» بمعنى «الذي» للمذكر والمؤنث جميعًا، في كل حالٍ فيقول: «هذه هند ذو سمعت بها»، و«رأيت هندًا ذو سمعت بها»، و«مررت بهندٍ ذو سمعت بها»، و«رأيت أخويك ذو سمعت بهما»، و«رأيت القوم ذو سمعت بهم»، كما جعلوا «من» و«ما» للمذكر والمؤنث والاثنين والجمع.
قال الشاعر:
فإن الماء ماء أبي وجدي = وبئري ذو حفرت وذو طويت
أراد: التي حفرت والتي طويت، فجعل «ذو» للأنثى، وربما ثنَّوا وجمعوا فقالوا: «هذان ذوا نعرف» و«هؤلاء ذو ونعرف»، و«هاتان ذواتا نعرف»، و«هؤلاء ذوات نعرف»، ويرفعون التاء من «ذوات» على كل حالٍ، قال الفراء: أنشدني بعضهم:
جمعتها من أينقٍ موارق = ذوات ينهضن بغير سائقٍ
فإذا ثنيت «الذي» كان فيها ثلاث لغاتٍ:
«اللذان» بتخفيف النون، و«اللذان» بتشديدها، والتشديد لغة قريشٍ، و«اللذا» بحذف النون، قال الأخطل:
أبني كليبٍ إن عمي اللذا = قتلا الملوك وفككا الأغلالا
قال قومٌ: هي لغته، وقال آخرون: بل لغته: «اللذان» إلا أنه حذف النون لطول الاسم، كما حذفها «اللذان» إلا أنه حذف النون لطول الاسم، كما حذفها النجاشي في قوله:
فلست بآتيه ولا أستطيعه = ولاك اسقني، إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: «ولكن» فحذف النون للتخفيف.
وإنما حذفت الياء التي كانت في «الذي» إذا ثنيت لالتقاء الساكنين، لأن «الذي» غير معربٍ.
وقد قرئ قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم} بتخفيف النون وتشديدها، فمن شدد جعله عوضًا من حذف الياء التي هي لام الفعل من «اللذان» في التثنية، وكذلك من قرأ {هذان} و{ذانك} و{هاتين} بتشديد النون جعل التشديد عوضًا من حذف لام الفعل فيها في التثنية، ويجوز أن يكون التشديد في {ذانك} عوضًا من اللام على لغة من قال في الإفراد: «ذلك».
فإذا جمعت «الذي» ففيها ثمان لغاتٍ:
منهم من يقول: «الذين» بالياء في جميع الأحوال، في الرفع والنصب والخفض، تنبيه على الواحد: وهي اللغة العليا، وبها نزل القرآن.
ومنهم من يجعلها جمعًا سالمًا فيقول: «جاءني اللذون عندك»، و«رأيت اللذين عندك»، و«مررت بالذين عندك»، وهي لغة هذيل، قال الشاعر:
نحن الذون صبحوا صباحا = يوم النخيل غارةً ملحاحا
وقال آخر:
وبنو نويجية الذون كأنهم = معط مخدمة من الخزان
«الخزاز» جمع «الخزز» وهو ذكر الأرانب.
ومنهم من يجعلها في الجميع بلفظ الواحد، فيقول: «الذي فعلوا ذاك الزيدون».
قال الشاعر: على هذه اللغة:
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم = هم القوم، كل القوم، يا أم خالد
أراد: «الذين»، والدليل على ذلك قوله: «دماؤهم».
وقال آخر:
يا رب عبسٍ لا تبارك في أحد = في قائمٍ منهم، ولا فيمن قعد
غير الذي قاموا بأطراف المسد.
أراد «الذين» وإنما جاز طرح النون لأن الإعراب فيما قبلها، ويقال: إن قول الله عز وجل: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}، على هذه اللغة، وكذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} بهذه اللغة، كأنه قال: كمثل الذين استوقدوا نارًا، لقوله: ذهب الله بنورهم، فحمل أول الكلام على لفظ «الذي» فوحده، وآخره على المعنى فجمعه.
فأما قوله عز وجل: {وخضتم كالذي خاضوا} فإن الذي ها هنا نعت مصدر محذوف تقديره: وخضتم كالخوض الذي خاضوا.
ومنهم من يقول: «هم اللاؤون فعلوا كذا وكذا» في الرفع، و«اللائين» في النصب والخفض، قال الهذلي:
هم اللاءون فكوا الغسل عني = بمرو الشاهجان وهم جناحي
ومنهم من يقول: «اللاءو» بحذف النون، قال الكسائي: سمعت هذيل تقول: «هم اللاءو فعلوا كذا وكذا».
ومنهم من يقول: «هم اللائي فعلوا كذا» بالياء في الرفع والنصب والخفض، قال الفراء: وهذه اللغة سواءٌ في الرجال والنساء، وفي قراءة عبد الله: (اللائي آلوا من نسائهم)، في موضع {للذين يؤلون من نسائهم}.
ومنهم من يحذف الياء في الرجال والنساء فيقول: «هم اللاء فعلوا كذا»، و«هن اللاء فعلن كذا»، قال الفراء: أنشدني رجلٌ من بني سليم.
فما آباؤنا بأمن منه = علينا اللاء هم مهدوا الجحورا
فهذا في المذكر، وأنشدني في التأنيث.
اللاء كن مرابعا ومصايفا = بك والغصون من الشباب رطاب
ومنهم من يقول: «هم الألى فعلوا».
قال القطامي:
أليسوا بالألى قسطوا جميعًا = على النعمان وابتدروا السطاعا
وأما «التي» ففيها أربع لغات:
منهم من يقول «التي» بإثبات الياء، وهي اللغة العليا.
ومنهم من يقول: «اللت» بحذف الياء وكسر التاء.
ومنهم من يقول: «اللت» بحذف الياء وإسكان التاء.
قال قيس بن ذهل العكلي:
وأمنحه اللت لا يغيب مثلها = إذا كان نيران الشتاء توائما
وأنشد الفراء:
فقل للت تلومك إن نفسي = أراها لا تعوذ بالتميم
ومنهم من يقيم مقام «التي»: «ذات»، ومقام «الذي»: «ذو»، وهي لغة طيء.
فإذا ثنيت «التي» ففيها ثلاث لغاتٍ:
«اللتان» بتخفيف النن، و«اللتان» بتشديدها، و«اللتا» بحذف النون، وأنشد الفراء:
هما اللتا لو ولدت تميم = لقيل فخر لهم صميم
فإذا جمعت «التي» ففيها تسع لغاتٍ
منهم من يقول: «التي» على لفظ الواحدة: قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا}.
ومنهم من يقول: «اللاتي» قال الله عز وجل: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم}.
ومنهم من يقول: «اللات» بكسر التاء وحذف الياء، قال الأسود بن يعفر:
اللات كالبيض لما يعد أن درست = صفر الأنامل من قرع القواقيز
معنى «درست»: حاضت.
ومنهم من يقول: «اللواتي».
ومنهم من يقول: «اللوات» بكسر التاء وحذف الياء.
ومنهم من يقول: «اللا» قال الكميت:
وكانت من اللالا يعيرها ابنها = إذا ما الغلام الأحمق الأمر عيَّرا
أراد: من اللاتي، وقوله: «لا يعيرها ابنها» أراد: لا يعير بها ابنها، تقول العرب: «عيرتني كذا»، ولا تقول: «عيرتني بكذا»، وقال آخر:
فدومي على العهد الذي كان بيننا = أم أنت من اللا ما لهن عهود
ومنهم من يقول: «اللائي» بالهمز وإسكان الياء.
ومنهم من يقول: «اللاء» بكسر الهمزة وحذف الياء.
ومنهم من يقول: «اللاي» بياء مكسورة غير مهموزة.
ومنهم من يقول: «اللاي» بحذف الهمزة وإسكان الياء.
وقد قرئ قوله عز وجل: {واللائي يئسن من المحيض}، بهذه الوجوه الأربعة.
وقال الشاعر:
اللاء كن مرابعا ومصايفا = بك والغصون من الشباب رطاب
وقال آخر:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبةً = ولكن ليقتلن البريء المغفلا
تم الكتاب أجمع بتأييد الله وعونه وحسن توفيقه والحمد لله وحده، صلواته على سيدنا محمدٍ نبيه وآله وصحبه وسلامه). [الأزهية: 291 - 307]