بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي كمالَ الربِّ جلَّ جلالُهُ، وتستلْزِمُ توحيدَهُ وتفرُّدَهُ بها
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الحاديَ عشرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي كمالَ الربِّ جلَّ جلالُهُ، وتستلْزِمُ توحيدَهُ وتفرُّدَهُ بها.
(قدْ ثبتَ بالعقلِ الصريحِ والنقلِ الصحيحِ ثبوتُ صفاتِ الكمالِ للربِّ سُبحانَهُ وأنَّهُ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سِواهُ، وأنَّهُ يجبُ أنْ تكونَ القوَّةُ كلُّها لهُ والعزَّةُ كلُّها لهُ والعلمُ كلُّهُ لهُ، والقدرةُ كلُّها لهُ، والجمالُ كلُّهُ لهُ، وكذلكَ سائرُ صفاتِ الكمالِ، وقامَ البرهانُ السمعيُّ والعقليُّ على أنَّهُ يمتنعُ أنْ يشتركَ في الكمالِ التامِّ اثنانِ، وأنَّ الكمالَ التامَّ لا يكونُ إلاَّ لواحدٍ.
وهاتانِ مقدِّمتانِ يقينيَّتَانِ معلومتانِ بصريحِ العقلِ، وجاءَتْ نصوصُ الأنبياءِ مُفَصِّلَةً لما في صريحِ العقلِ إدراكُهُ قطعاً، فاتَّفَقَ على ذلكَ العقلُ والنقلُ، قالَ تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165].
وقد اخْتُلِفَ في تَعَلُّقِ قولِهِ: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} بماذا؟ فقالَتْ طائفةٌ: هوَ مفعولُ يَرَى؛ أيْ: ولوْ يرَوْنَ أنَّ القوَّةَ للهِ جميعاً لَمَا عصَوْهُ ولما كذَّبُوا رسُلَهُ، وقدَّمُوا عقولَهُم على وحْيِهِ، وقالَتْ طائفةٌ: بل المعنى لأنَّ القوَّةَ للهِ جميعاً.
وجوابُ (لَوْ) محذوفٌ على التقديرَيْنِ؛ أيْ: لوْ يرى هؤلاءِ حالَهُم وما أعدَّ اللهُ لهم إذْ يرَوْنَ العذابَ لرَأَوْا أمراً عظيماً، ثمَّ قالَ: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وهوَ متضمِّنٌ للتهديدِ الشديدِ والوعيدِ، وقالَ تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقالَ: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمرانَ: 154]، وقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في دعاءِ الاستفتاحِ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ واَلْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْك)) ([1])
وفي الأثرِ الآخرِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ)) ([2]).
فللهِ سُبحانَهُ كلُّ صفةِ كمالٍ وهوَ موصوفٌ بتلكَ الصِّفَاتِ كلِّها، ونذْكُرُ منْ ذلكَ صفةً واحدةً تُعْتَبَرُ بها سائرُ الصِّفَاتِ، وهوَ أنَّكَ لوْ فرَضْتَ جمالَ الخلقِ كلِّهِم منْ أوَّلِهم إلى آخرِهم اجتمعَ لشخصٍ واحدٍ منهم، ثمَّ كانَ الخلقُ كلُّهُم على جمالِ ذلكَ الشخصِ لكانَ نسبتُهُ إلى جمالِ الربِّ تباركَ وتعالى دُونَ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى جِرْمِ الشمسِ، وكذلكَ قوَّتُهُ سُبحانَهُ وعلمُهُ وسمعُهُ وبصرُهُ وكلامُهُ وقدرتُهُ ورحمتُهُ وحكمتُهُ وجُودُهُ وسائرُ صفاتِهِ.
وهذا ممَّا دلَّتْ عليهِ آياتُهُ الكونيَّةُ السمعيَّةُ، وأخْبَرَتْ بهِ رسُلُهُ عنهُ كما في الصحيحِ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ, يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([3]).
فإذا كانتْ سُبُحاتُ وجهِهِ الأعلى لا يقومُ لها شيءٌ منْ خلقِهِ، ولوْ كُشِفَ حجابُ النورِ عنْ تلكَ السُّبُحاتِ لاحترقَ العالمُ العلويُّ والسفليُّ، فما الظنُّ بجلالِ ذلكَ الوجهِ الكريمِ وعظمَتِهِ وكبريائِهِ وكمالِهِ وجلالِهِ، وإذا كانت السَّماوَاتُ معَ عظمَتِها وسَعَتِها يجعَلُها على أُصْبُعٍ منْ أصابعِهِ، والأرضُ على أُصْبُعٍ، والجبالُ على أصبعٍ، والبحارُ على أصبعٍ، فما الظنُّ باليدِ الكريمةِ التي هيَ صفةٌ منْ صفاتِ ذاتِهِ، وإذا كانَ يسمعُ ضجيجَ الأصواتِ، باختلافِ اللغاتِ، على تفنُّنِ الحاجاتِ، في أقطارِ الأرضِ والسَّماوَاتِ، فلا يشتبهُ عليهِ ولا يختلطُ ولا يلتبسُ، ولا يُغْلِطُهُ سمعٌ، ويرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ تحتَ أطباقِ الأرضِ في الليلةِ الظلماءِ، ويعلمُ سُبحانَهُ ما تُسِرُّهُ القلوبُ وأخفى منهُ - وهوَ ما لمْ يخْطُرْ لها - أنَّهُ سيَخْطُرُ لها.
ولوْ كانَ البحرُ المحيطُ بالعالمِ مداداً ويُحيطُ بهِ منْ بعدِهِ سبعةُ أبحرٍ، كلُّها مدادٌ، وجميعُ أشجارِ الأرضِ -وهوَ كلُّ نَبْتٍ قامَ على ساقٍ ممَّا يُحْصَدُ وممَّا لا يُحْصَدُ- أقلامٌ يكتبُ بها، نفِدَت البحارُ والأقلامُ ولمْ يَنْفَدْ كلامُهُ، وهذا وغيرُهُ بعضُ ما تعرَّفَ بهِ إلى عبادِهِ منْ كلامِهِ , وإلاَّ فلا يُمْكِنُ لأحدٍ قطُّ أنْ يُحْصِيَ ثناءً عليهِ، بلْ هوَ كما أثنى على نفسِهِ، فكلُّ الثناءِ وكلُّ الحمدِ وكلُّ المجدِ وكلُّ الكمالِ لهُ سُبحانَهُ... (([فهوَ] سُبحانَهُ كاملٌ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، فلهُ الكمالُ المطلقُ منْ جميعِ الوجوهِ الذي لا نقصَ فيهِ بوجهٍ ما)) ([4]).
((وَ... أدلَّةُ ثبوتِ صفاتِ الكمالِ لمعطي الكمالِ... منْ أظهرِ الأشياءِ وأوضَحِها))([5])، وباللهِ المستعانُ). ([6])
(ولهُ الكمالُ المُطْلَقُ العاري عنِ = التشبيهِ والتمثيلِ بالإنسانِ
وكمالُ مَنْ أعطى الكمالَ بنفسِهِ = أوْلَى وأقدمُ وهوَ أعظمُ شانِ
أيكونُ قدْ أعطى الكمالَ وما لَهُ = ذاكَ الكمالُ أذاكَ ذُو إمكانِ
أيكونُ إنسانٌ سميعاً مُبْصِراً = مُتَكَلِّماً بمشيئةٍ وبيانِ
ولـهُ الحياةُ وقدرةٌ وإرادةٌ = والعلمُ بالكُلِّيِّ والأعيانِ
واللهُ قدْ أعطاهُ ذاكَ وليسَ ها = ذا وصفَهُ فاعْجَبْ من البهتانِ
بخلافِ نومِ العبدِ ثمَّ جِمَاعِهِ = والأكلِ منهُ وحاجةِ الأبدانِ
إذْ تلكَ ملزوماتُ كونِ العبدِ مُحْـ = ـتاجاً وتلكَ لوازمُ النقصانِ
وكذا لوازمُ كونِهِ جسداً نَعَمْ = ولوازمُ الإحداثِ والإمكانِ
يتقَدَّسُ الرحمنُ جلَّ جلالُهُ = عنها وعنْ أعضاءِ ذِي جُثْمَانِ)([7]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (805)، ومُسلِمٌ في كتابِ صلاةِ المُسافِرِينَ / بابُ الدعاءِ في صلاةِ الليلِ وقِيامِهِ (1809)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَوَاتِ / بابُ ما جاءَ في الدعاءِ عندَ افتتاحِ الصلاةِ باللَّيْلِ (3422)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الافتتاحِ / بابُ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الذِّكْرِ والدُّعَاءِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والقراءةِ (896) وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يَسْتَفْتِحُ بِهِ الصَّلاةَ مِنَ الدُّعَاءِ (756).
([2]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (22846) من حديثِ الحَجَّاجِ بنِ فُرَافِصَةَ، عن رَجُلٍ، عن حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْه مرفوعًا.
([3]) سَبَقَ تَخْرِيجُهُ صفحة 76.
([4]) رَوْضَةُ المُحِبِّينَ (81).
([5]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/123).
([6]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (3/1081-1084).
([7]) القَصِيدَةُ النُّونِيَّةُ (66).