شرح ابن القيم (ت:751هـ)[الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( الشَّكُورُ):
(أمَّا تَسْمِيَتُهُ سبحانَهُ بـ (( الشكورِ )) فهوَ في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ ([1])، وفي القرآنِ تَسْمِيَتُهُ ((شَاكِراً))، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. وَتَسْمِيَتُهُ أيضاً (( شكورٌ )) قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغَابُن: 17]. ((وقالَ أهلُ الجنَّةِ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34]، فهذا الشُّكْرُ … هوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ))([2]).
وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 22]. فَجَمَعَ لهم سُبْحَانَهُ بينَ الأمرَيْنِ: أنْ شَكَرَ سَعْيَهُم، وَأَثَابَهُم عليهِ، واللهُ تَعَالَى يَشْكُرُ عبدَهُ إذا أَحْسَنَ طاعَتَهُ، وَيَغْفِرُ لهُ إذا تَابَ عليهِ، فَيَجْمَعُ للعبدِ بينَ شُكْرِهِ لإحسانِهِ ومغفرتِهِ لإساءتِهِ، إنَّهُ غفورٌ شكورٌ)([3]).
(وهوَ الشَّكورُ فَلَنْ يُضَيِّعَ سَعْيَهُم = لكنْ يُضَـاعِفُهُ بلا حُسْبَانِ
مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ وَاجِبٌ = هوَ أَوْجَبَ الأجْرَ العظيمَ الشانِ
كَلاَّ ولا عَمَلٌ لَدَيْهِ ضَائـِـعٌ = إنْ كانَ بالإخلاصِ والإحسانِ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا = فبِفَضْلِهِ " والحمدُ للمنَّانِ([4]))
(فـ]اللهُ تَعَالَى شكورٌ إذا رَضِيَ من العبدِ عملاً منْ أعمالِهِ نَجَّاهُ، وأَسْعَدَهُ بهِ وَثَمَّرَهُ لهُ وَبَارَكَ لهُ فيهِ، وَأَوْصَلَهُ بهِ إليهِ، وَأَدْخَلَهُ بهِ عليهِ، ولمْ يَقْطَعْهُ بهِ عنهُ)([5]).
(فهوَ أَوْلَى بصفةِ الشكرِ منْ كلِّ شكورٍ، بلْ هوَ الشكورُ على الحقيقةِ، فإنَّهُ يُعْطِي العبدَ وَيُوَفِّقُهُ لِمَا يَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، ويَشْكُرُ القليلَ من العملِ والعطاءِ، فلا يَسْتَقِلُّهُ أنْ يَشْكُرَهُ، وَيَشكُرُ الحسنةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى أضعافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَيَشْكُرُ عَبْدَهُ:
بقولِهِ: بأنْ يُثْنِيَ عليهِ بينَ ملائكتِهِ وفي مَلأِهِ الأَعْلَى، وَيُلْقِيَ لهُ الشُّكْرَ بينَ عبادِهِ.
وَيَشْكُرُهُ بفعلِهِ: فإذا تَرَكَ لهُ شيئاً أَعْطَاهُ أَفْضَلَ منهُ، وإذا بَذَلَ لهُ شَيْئاً رَدَّهُ عليهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً، وهوَ الذي وَفَّقَهُ للتَّرْكِ والبَذْلِ, وشُكْرُهُ على هذا وذاكَ.
وَلَمَّا عَقَرَ نَبِيُّهُ سُلَيْمَانُ الخيلَ غضباً لهُ؛ إذْ شَغَلَتْهُ عنْ ذِكْرِهِ، فَأَرَادَ ألاَّ تَشْغَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى أَعَاضَهُ عنها متنَ الريحِ، ولَمَّا تَرَكَ الصحابةُ ديارَهُم وَخَرَجُوا منها في مَرْضَاتِهِ، أَعَاضَهُم عنها أنْ مَلَّكَهُم الدُّنْيا وَفَتَحَهَا عليهم.
ولَمَّا احْتَمَلَ يُوسُفُ الصدِّيقُ ضِيقَ السجنِ شَكَرَ لهُ ذلكَ بأنْ مَكَّنَ لهُ في الأرضِ يَتَبَوَّأُ منها حيثُ يَشَاءُ، ولَمَّا بَذَلَ الشهداءُ أَبْدَانَهُم لهُ حَتَّى مَزَّقَهَا أعداؤُهُ شَكَرَ لهم بأنْ أَعَاضَهُم منها طَيْراً خُضْراً أَقَرَّ أَرْوَاحَهُم فيها تَرِدُ أنهارَ الجنَّةِ وتأكلُ منْ ثمارِهَا إلى يومِ البعثِ، فَيَرُدُّهَا عليهم أَكْمَلَ ما تكونُ وأجملَهُ وأَبْهَاهُ، ولَمَّا بَذَلَ رُسُلُهُ أَعْرَاضَهُم فيهِ لأَعْدَائِهِم فَنَالُوا منهم وَسَبُّوهُم، أَعَاضَهُم منْ ذلكَ بأنْ صَلَّى عليهم هوَ وملائكتُهُ، وَجَعَلَ لهم أَطْيَبَ الثناءِ في سماواتِهِ وبينَ خلقِهِ، فَأَخْلَصَهُم بخالصةٍ ذِكْرَى الدارِ.
ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ: أنَّهُ يُجَازِي عَدُوَّهُ بما يَفْعَلُهُ من الخيرِ والمعروفِ في الدنيا، وَيُخَفِّفُ بهِ عنهُ يومَ القيامةِ، فلا يُضَيِّعُ عليهِ ما يَعْمَلُهُ من الإحسانِ وهوَ منْ أَبْغَضِ خَلْقِهِ إليهِ.
ومِنْ شُكْرِهِ أنَّهُ غَفَرَ للمرأةِ البَغِيِّ بِسَقْيِهَا كَلْباً كانَ قدْ جَهَدَهُ العطشُ حتَّى أَكَلَ الثَّرَى، وَغَفَرَ لآخرَ بِتَنْحِيَتِهِ غُصْنَ شوكٍ عنْ طريقِ المسلمينَ.
فهوَ سبحانَهُ يَشْكُرُ العبدَ على إحسانِهِ لنفسِهِ، والمخلوقُ إنَّمَا يَشْكُرُ مَنْ أَحْسَنَ إليهِ. وَأَبْلَغُ منْ ذلكَ أنَّهُ سبحانَهُ هوَ الذي أَعْطَى العبدَ ما يُحْسِنُ بهِ إلى نفسِهِ، وَشَكَرَهُ على قليلِهِ بالأضعافِ المضاعفةِ التي لا نِسْبَةَ لإحسانِ العبدِ إليها، فهوَ المُحْسِنُ بإعطاءِ الإحسانِ وإعطاءِ الشكرِ، فَمَنْ أَحَقُّ باسمِ (( الشكورِ )) منهُ سُبْحَانَهُ؟!!
وتَأَمَّلْ قولَهُ سبحانَهُ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]، كيفَ تَجِدُ في ضِمْنِ هذا الخطابِ أنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى يَأْبَى تَعْذِيبَ عبادِهِ بغيرِ جُرْمٍ كما يَأْبَى إضاعةَ سَعْيِهِم باطلاً، فالشكورُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مُحْسِنٍ، ولا يُعَذِّبُ غيرَ مُسِيءٍ.
وفي هذا رَدٌّ لقولِ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ سبحانَهُ يُكَلِّفُهُ ما لا يُطِيقُهُ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ على ما لا يَدْخُلُ تحتَ قُدْرَتِهِ، تَعَالَى اللهُ عنْ هذا الظنِّ الكاذبِ والحِسبانِ الباطلِ عُلُوًّا كبيراً، فَشُكْرُهُ سبحانَهُ اقْتَضَى أنْ لا يُعَذِّبَ المؤمنَ الشكورَ، ولا يُضَيِّعَ عَمَلَهُ، وذلكَ منْ لوازمِ هذهِ الصفةِ، فهوَ مُنَـزَّهٌ عنْ خلافِ ذلكَ كما يُنَـزَّهُ عنْ سائرِ العيوبِ والنقائصِ التي تُنَافِي كمالَهُ وغِنَاهُ وحمدَهُ.
ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ أَنَّهُ يُخْرِجُ العبدَ من النارِ بِأَدْنَى مثقالِ ذرَّةٍ منْ خيرٍ، ولا يُضِيعُ عليهِ هذا القدرَ. ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ أنَّ العبدَ منْ عبادِهِ يَقُومُ لهُ مَقَاماً يُرْضِيهِ بينَ الناسِ، فَيَشْكُرُهُ لهُ، وَيُنَوِّهُ بذكرِهِ، وَيُخْبِرُ بهِ ملائكتَهُ وعبادَهُ المؤمنينَ، كما شَكَرَ لمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ ذلكَ المقامَ، وَأَثْنَى بهِ عليهِ، وَنَوَّهَ بذكرِهِ بينَ عبادِهِ، وكذلكَ شَكَرَ لصاحبِ يس مَقَامَهُ وَدَعْوَتَهُ إليهِ، فلا يَهْلِكُ عليهِ بينَ شُكْرِهِ ومغفرتِهِ إلاَّ هَالِكٌ، فإنَّهُ سبحانَهُ غفورٌ شكورٌ، يَغْفِرُ الكثيرَ من الزَّلَلِ، ويَشْكُرُ القليلَ من العملِ.
وَلَمَّا كانَ سُبْحَانَهُ هوَ الشكورَ على الحقيقةِ كانَ أحبُّ خَلْقِهِ إليهِ مَن اتَّصَفَ بصفةِ الشكرِ، كما أنَّ أبغضَ خلقِهِ إليهِ مَنْ عَطَّلَهَا وَاتَّصَفَ بِضِدِّهَا. وهذا شَأْنُ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى أَحَبُّ خَلْقِهِ إليهِ مَن اتَّصَفَ بِمُوجَبِهَا، وَأَبْغَضُهُم إليهِ مَن اتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا، ولهذا يُبْغِضُ الكفورَ والظالمَ والجاهلَ والقاسِيَ القلبِ والبخيلَ والجبانَ والمهينَ واللئيمَ، وهوَ سبحانَهُ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، عليمٌ يُحِبُّ العلماءَ، رَحِيمٌ يُحِبُّ الراحمِينَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنِينَ، شَكُورٌ يُحِبُّ الشاكِرِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصابِرِينَ، جَوَادٌ يُحِبُّ أَهْلَ الجودِ، سَتَّارٌ يُحِبُّ أَهْلَ السترِ، قادِرٌ يَلُومُ على العجزِ، والمؤمنُ القَوِيُّ أَحَبُّ إليهِ من المؤمنِ الضعيفِ، عَفُوٌّ يُحِبُّ العفوَ، وِتْرٌ يـُحِبُّ الـوِتْرَ، وَكُـلُّ ما يُحِبُّهُ فهوَ منْ آثارِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وموجَبِهَا، وكلُّ ما يُبْغِضُهُ فهوَ ممَّا يُضَادُّهَا وَيُنَافِيهَا)([6]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]
(1) الذي فيه تَعدادُ الأسماءِ الحُسنَى، وقد سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 354.
(2) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/108-109) .
(3) عدة الصابرين (310) .
(4) القصيدةُ النُّونيَّةُ (245) .
(5) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/390) .
(6) عُدةُ الصابرينَ ( 310-312 )
مُلحَقٌ: وقال –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى– في مَدارجِ السَّالكِينَ (2/ 232 – 233): (والإيمانُ نصفانِ نِصفٌ شكرٌ ونِصفٌ صَبرٌ. وقد أمرَ اللهُ به ونَهَى عن ضِدِّه وأَثْنَى على أهلِه، ووصَفَ به خواصَّ خَلقِه وأَمْرِه، ووَعَدَ أهلَهُ بأَحْسَنِ جَزائِه، وجَعلَهُ سَببًا للمَزِيدِ مِن فَضلِه وحَارِسًا وحافِظًا لنِعمتِه، وأخبرَ أن أهلَهُ المنتفِعونَ بآياتِه، واشتقَّ لهمُ اسمًا مِن أسمائِه، فإنه سُبحانَهُ هو "الشَّكُورُ" وهو يُوصِّلُ الشاكرُ إلى مَشْكُورِهِ بل يُعِيدُ الشَّاكِرَ مَشكورًا. وهو غايةُ الربِّ مِن عَبدِه. وأهلُه همُ القَلِيلُ مِن عِبادِه. قالَ اللهُ تَعالَى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقالَ: {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} وقال عن خليلِه إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنعُمِه} وقال عن نوحٍ عليه السلامُ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} وقال تعالَى: {واللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالَى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال تعالَى: {وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} وقال تعالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال تعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
وسمَّى نفسَهُ (شاكرًا) (وشَكُورًا). وسمَّى الشاكرينَ بهذينِ الاسمَينِ. فأعطاهُم مِن وَصفِه. وسمَّاهُم باسمِه. وحسبُكَ بهذا مَحَبةً للشاكرينَ وفَضلاً.
وإعادتُهُ للشاكرِ مشكورًا. كقولِه: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} ورَضِيَ اللهُ الربُّ عن عبدِه به كقولِه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وقلةُ أهلِه في العالَمِينَ تَدُلُّ على أنهم هم خَواصُّه. كقولِه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وفي الصحيحينِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: (أنه قامَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. فقيلَ له: تَفْعَلُ هذا وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ؟ فقالَ: ((أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)).
وقال لمُعاذٍ: ((واللهِ يَا مُعاذُ، إِنِّي لأُحِبُّكَ. فَلاَ تَنْسَ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ: اللهُمَّ أَعِنِّي علَى ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبادَتِكَ)).
وقال أيضًا في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/108- 109). (فإنَّ شُكرَ العبدِ لربِّهِ: نِعمةٌ مِنَ اللهِ أَنعَمَ بها عليهِ. فهي تَسْتَدْعِي شُكرًا آخَرَ عليها. وذلك الشكرُ نعمةٌ أيضًا. فيستدعِي شُكرًا ثالثًا. وهلُمَّ جَرًّا. فلا سبيلَ إلى القيامِ بشُكرِ الربِّ على الحقيقةِ. ولا يَشْكُرُهُ على الحقيقةِ سِواهُ. فإنه هو المُنعِمُ بالنِّعْمَةِ وبِشُكْرِهَا. فهو الشَّكُورُ لنَفْسِهِ، وإن سَمَّى عَبدَهُ شَكُورًا. فمَدْحَةُ الشُّكرِ في الحقيقةِ: راجعةٌ إليه، وموقوفةٌ عليه. فهو الشاكرُ لنَفْسِه بما أَنعَمَ على عبدِه. فما شَكَرَهُ في الحقيقةِ سِوَاهُ، معَ كونِ العبدِ عَبدًا والربِّ ربًّا....
فإنه سَمَّى نفسَهُ بالشَّكُورِ، كما قالَ تعالَى: {وكانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} وقالَ أهلُ الجنةِ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فهذا الشُّكرُ الذي هو وَصْفُه سُبحانَهُ لا يقومُ إلا به ولا يَبْعَثُ العبدَ على المُلاحظَةِ المذكورةِ إلا على وجهٍ واحدٍ. وهو أنه: إذا لاحَظَ سَبْقَ الفَضْلِ منه سُبحانَهُ، عَلِمَ أنه فَعَلَ ذلك لمَحَبَّتِه للشُّكرِ. فإنه تَعالَى يُحِبُّ أن يُشكَرَ. كما قال مُوسَى صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: (يَا رَبِّ، هَلاَّ سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبادِكَ؟ فقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ).
وإذا كانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فهو أَوْلَى أن يَتَّصِفَ به، كما أنه سُبحانَهُ وِترٌ، يُحِِبُّ الوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، مُحسِنٌ يُحِبُّ المُحسِنينَ، صَبُورٌ يحبُّ الصابرينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ، قَوِيٌّ والمؤمنُ القوِيُّ أَحَبُّ إليه من المؤمنِ الضعيفِ. فكذلك هو شَكُورٌ يُحِبُّ الشاكرينَ. فملاحظةُ العبدِ سَبْقَ الفضلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وتَبْعَثُهُ على القيامِ بفِعلِ الشكرِ. واللهُ أعلمُ).