شرح ابن القيم (ت:751هـ)[الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( السَّلامُ ):
( (( السَّلامُ ))... منْ أسماءِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهوَ اسمُ مصدرٍ في الأصلِ - كالكلامِ والعطاءِ - بِمَعْنَى السلامةِ،... [و] الربُّ تَعَالَى أَحَقُّ بهِ منْ كلِّ ما سِوَاهُ؛ لأنَّهُ السالِمُ منْ كلِّ آفةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ وَذَمٍّ؛ فإنَّ لهُ الكمالَ المُطْلَقَ منْ جميعِ الوجوهِ، وكمالُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ إلاَّ كذلكَ.
و (( السَّلامُ )) يَتَضَمَّنُ:
- سلامةَ أفعالِهِ من العبثِ والظلمِ وخلافِ الحكمةِ.
- وسلامةَ صفاتِهِ منْ مُشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ.
- وسلامةَ ذاتِهِ منْ كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
- وسلامةَ أسمائِهِ منْ كُلِّ ذَمٍّ.
فاسْمُ (( السَّلامِ )) يَتَضَمَّنُ إثباتَ جميعِ الكمالاتِ لهُ، وَسَلْبَ جميعِ النقائصِ عنهُ، وهذا مَعْنَى: (( سُبْحَانَ اللهِ والحمدُ للهِ )). وَيَتَضَمَّنُ إفرادَهُ بالألوهيَّةِ، وإفرادَهُ بالتعظيمِ، وهذا معنَى: (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ )). فَانْتَظَمَ اسمُ (( السَّلامِ )) البَاقِيَاتِ الصالحاتِ التي يُثْنَى بها على الربِّ جلَّ جلالُهُ)([1]).
(و... حقيقةُ هذهِ اللفظةِ... البراءةُ والخلاصُ والنجاةُ من الشرِّ والعيوبِ. وعلى هذا المعنَى تَدُورُ تَصَارِيفُهَا، فمِنْ ذلكَ قولُكَ: " سَلَّمَكَ اللهُ، وَسَلِمَ فلانٌ من الشرِّ "، ومنهُ دعاءُ المؤمنينَ على الصراطِ: " رَبِّ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ ". ومنهُ: " سَلِمَ الشيءُ لفلانٍ، أيْ: خَلَصَ لهُ وَحْدَهُ، فَخَلَصَ منْ ضَرَرِ الشركةِ فيهِ؛ قالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]؛ أيْ: خَالِصاً لهُ وَحْدَهُ لا يَمْلُكُهُ معهُ غَيْرُهُ.
ومنهُ: (السِّلْمُ) ضِدُّ الحربِ، قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]؛ لأنَّ كُلاًّ من المُتَحَارِبَيْنِ يَـخْلُصُ وَيَسْلَمُ منْ أَذَى الآخرِ، ولهذا يُبْنَى منهُ على المُفَاعَلَةِ، فَيُقَالُ:
المُسَالَمَةُ، مِثلُ المُشَارَكَةِ.
ومنهُ: (القلبُ السليمُ) ، وهوَ النَّقِيُّ من الغلِّ والدَّغَلِ، وحقيقتُهُ الذي قدْ سَلِمَ للهِ وحدَهُ فَخَلَصَ منْ دَغَلِ الشركِ وغِلِّهِ ودَغَلِ الذنوبِ والمخالفاتِ، بلْ هوَ المستقيمُ على صدقِ حُبِّهِ وَحُسْنِ معاملتِهِ، فهذا هوَ الذي ضَمِنَ لهُ النجاةَ منْ عذابِهِ والفوزَ بكرامتِهِ.
ومنهُ أُخِذَ (الإسلامُ)؛ فإنَّهُ منْ هذهِ المادَّةِ؛ لأنَّهُ: الاستسلامُ والانقيادُ للهِ والتخلُّصُ منْ شوائبِ الشركِ، فسَلِمَ لربِّهِ وخَلَصَ لهُ كالعبدِ الذي سَلِمَ لمولاهُ، ليسَ فيهِ شركاءُ مُتَشَاكِسُونَ، ولهذا ضَرَبَ سبحانَهُ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ للمسلمِ المُخْلِصِ لربِّهِ، والمُشْرِكِ بهِ.
ومنهُ: ( السَّلَمُ ) للسَّلَفِ، وحقيقتُهُ العِوَضُ المُسَلَّمُ فيهِ؛ لأنَّ مَنْ هوَ في ذمَّتِهِ قدْ ضَمِنَ سلامَتَهُ لِرَبِّهِ، ثُمَّ سُمِّيَ العقدُ سَلَماً وحقيقتُهُ ما ذَكَرْنَاهُ.
فإنْ قِيلَ: فهذا يَنْتَقِضُ بقولِهِم للَّدِيغِ: سَلِيماً.
قيلَ: ليسَ هذا بِنَقْضٍ لهُ، بلْ طردٌ لما قُلْنَاهُ؛ فإنَّهُم سَمَّوْهُ سَلِيماً باعْتِبَارِ ما يَهُمُّهُ ويَطْلُبُهُ ويَرْجُو أنْ يَؤُولَ إليهِ حالُهُ من السلامةِ، فليسَ عندَهُ أَهَمُّ من السلامةِ، ولا هوَ أَشَدُّ طَلَباً منهُ لغيرِهَا، فسُمِّيَ: ( سَلِيماً ) لذلكَ، وهذا مِنْ جنسِ تَسْمِيَتِهِم المهلكةَ " المَفَازَةَ "؛ لأنَّهُ لا شيءَ أَهَمُّ عندَ سالِكِهَا منْ فَوْزِهِ منها؛ أيْ: نَجَاتِهِ، فَسُمِّيَتْ مَفَازَةً؛ لأنَّهُ يَطْلُبُ الفوزَ منها. وهذا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِم: إنَّمَا سُمِّيَتْ "مَفَازَةً "، وَسُمِّيَ اللَّدِيغُ " سَلِيماً " تَفَاؤُلاً، وإنْ كانَ التَّفَاؤُلُ جُزْءَ هذا المَعْنَى الذي ذَكَرْنَاهُ وَدَاخِلاً فيهِ، فهوَ أَعَمُّ وَأَحْسَنُ.
فإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُمْكِنُكُم رَدُّ السُّلَّمِ إلى هذا الأصلِ؟!!
قِيلَ: ذلكَ ظَاهِرٌ؛ لأنَّ الصاعدَ إلى مكانٍ مرتفعٍ لَمَّا كَانَ مُتَعَرِّضاً للهُوِيِّ والسقوطِ طَالِباً للسلامةِ رَاجِياً لها سُمِّيَت الآلةُ التي يَتَوَصَّلُ بها إلى غرضِهِ " سُلَّماً " لِتَضَمُّنِهَا سلامتَهُ؛ إذْ لوْ صَعَدَ بِتَكَلُّفٍ منْ غيرِ سُلَّمٍ لكانَ عَطَبُهُ مُتَوَقَّعاً، فَصَحَّ أنَّ السُّلَّمَ منْ هذا المعنَى.
ومنهُ تَسْمِيَةُ الجنَّةِ: بـ ( دارِ السلامِ ). وفي إِضَافَتِهَا إلى السلامِ ثلاثةُ أقوالٍ:
- أحدُهَا: أنَّهَا إضافةٌ إلى مالِكِهَا (( السَّلامِ )) سبحانَهُ.
- الثاني: أنَّهَا إضافةٌ إلى تَحِيَّةِ أَهْلِهَا؛ فإنَّ تَحِيَّتَهُم فيها سلامٌ.
- الثالث: أنَّهَا إضافةٌ إلى معنَى السلامةِ؛ أيْ: دارِ السلامةِ منْ كلِّ آفةٍ ونقصٍ وشرٍّ.
والثلاثةُ متلازمةٌ وإنْ كانَ الثالِثُ أَظْهَرَهَا؛ فإنَّهُ لوْ كانت الإضافةُ إلى مَالِكِهَا لأُضِيفَتْ إلى اسمٍ منْ أسمائِهِ غيرِ السلامِ، وكانَ يُقَالُ: دارُ الرَّحْمَنِ، أوْ: دارُ اللهِ، أوْ: دارُ المَلِكِ، ونحوُ ذلكَ.
فإذا عُهِدَتْ إِضَافَتُهَا إليهِ ثُمَّ جَاءَ: (( دارُ السلامِ )) حُمِلَتْ على المعهودِ.
وأيضاً فإنَّ المعهودَ في القرآنِ إضَافَتُهَا إلى صِفَتِهَا أوْ إلى أهلِهَا.
- أمَّا الأوَّلُ، فَنَحْوُ: دارُ القرارِ، دارُ الخُلْدِ، جَنَّةُ المأوى، جَنَّاتُ النَّعِيمِ، جنَّاتُ الفِرْدَوْسِ.
- وأمَّا الثاني، فَنَحْوُ: دارُ المُتَّقِينَ.
ولمْ تُعْهَدْ إِضَافَتُهَا إلى اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ في القرآنِ، فالأَوْلَى حَمْلُ الإضافةِ على المعهودِ في القرآنِ، وكذلكَ إِضَافَتُهَا إلى التحيَّةِ ضَعِيفٌ منْ وجهَيْنِ:
- أحدُهُمَا: أنَّ التحيَّةَ بالسَّلامِ مُشْتَرِكَةٌ بينَ دارِ الدنيا والآخرةِ، وما يُضَافُ إلى الجنَّةِ لا يَكُونُ إلاَّ مُخْتَصًّا بها كالخُلْدِ والقرارِ والبقاءِ.
- الثاني: أنَّ مِنْ أَوْصَافِهَا - غيرَ التَّحِيَّةِ - ما هوَ أَكْمَلُ منها؛ مِثْلَ كَوْنِهَا دائمةً وباقيَةً ودارَ الخلدِ، والتَّحِيَّةُ فيها عارضةٌ عندَ التَّلاقِي والتَّزَاورِ بخلافِ السلامةِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ وَشَرٍّ؛ فإنَّها منْ أكملِ أَوْصَافِها المقصودةِ على الدوامِ التي لا يَتِمُّ النعيمُ فيها إلاَّ بهِ، فإضافَتُهَا إليهِ أَوْلَى، وهذا ظاهِرٌ.
[فَصْلٌ]:
... إذا عُرِفَ هذا فَإِطْلاقُ (( السلامِ )) على اللهِ تَعَالَى اسْماً منْ أسمائِهِ هوَ أَوْلَى منْ هذا كلِّهِ , وَأَحَقُّ بهذا الاسمِ منْ كلِّ مُسَمًّى بهِ لسلامتِهِ سبحانَهُ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ منْ كلِّ وجهٍ، فهوَ (( السلامُ )) الحَقُّ بِكُلِّ اعتبارٍ، والمخلوقُ سلامٌ بالإضافةِ.
فهوَ سبحانَهُ سلامٌ في ذاتِهِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونقصٍ يَتَخَيَّلُهُ وَهْمٌ، وسلامٌ في صفاتِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وسلامٌ في أفعالِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ وشرٍّ وظُلْمٍ وفعلٍ واقعٍ على غيرِ وجهِ الحكمةِ، بلْ هوَ (( السلامُ )) الحقُّ منْ كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ.
فعُلِمَ أنَّ استحقاقَهُ تَعَالَى لهذا الاسمِ أَكْمَلُ من استحقاقِ كلِّ ما يُطْلَقُ عليهِ، وهذا هوَ حقيقةُ التَّنـْزِيهِ الذي نَـزَّهَ بهِ نفسَهُ وَنَزَّهَهُ بهِ رسولُهُ، فهوَ السلامُ من الصاحبةِ والولدِ، والسلامُ من النظيرِ والكُفْءِ والسَّمِيِّ والمُمَاثِلِ، والسلامُ من الشريكِ.
ولذلكَ إذا نَظَرْتَ إلى أفرادِ صفاتِ كمالِهِ وَجَدْتَ كلَّ صفةٍ سلاماً مِمَّا يُضَادُّ كَمَالَهَا:
- فحياتُهُ سلامٌ من الموتِ ومن السِّنَةِ والنومِ.
- وكذلكَ قَيُّومِيَّتُهُ وقُدْرَتُهُ سلامٌ من التعبِ واللُّغُوبِ.
- وَعِلْمُهُ سلامٌ منْ عُزُوبِ شيءٍ عنهُ أوْ عُرُوضِ نسيانٍ أوْ حاجةٍ إلى تَذَكُّرٍ وَتَفَكُّرٍ.
- وإرادتُهُ سلامٌ منْ خُرُوجِهَا عن الحكمةِ والمصلحةِ.
- وكَلِمَاتُهُ سلامٌ من الكذبِ والظلمِ، بلْ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقاً وَعَدْلاً.
- وَغِنَاهُ سلامٌ من الحاجةِ إلى غيرِهِ بوَجْهٍ ما، بلْ كُلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وهوَ غَنِيٌّ عنْ كلِّ ما سِوَاهُ.
- وَملكُهُ سلامٌ منْ مُنَازِعٍ فيهِ، أوْ مُشَارِكٍ، أوْ مُعَاوِنٍ، مُظَاهِرٍ، أوْ شَافِعٍ عندَهُ بدونِ إذنِهِ.
- وَإِلَهِيَّتُهُ سَلامٌ منْ مُشَارِكٍ لهُ فيها، بلْ هوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ.
- وَحِلْمُهُ وعفوُهُ وصَفْحُهُ ومغفرتُهُ وتجاوزُهُ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ حاجةٍ منهُ، أوْ ذُلٍّ أوْ مُصَانَعَةٍ كما يكونُ منْ غيرِهِ، بلْ هوَ مَحْضُ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ.
- وكذلكَ عَذَابُهُ وانتقامُهُ وشدَّةُ بَطْشِهِ وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ سلامٌ منْ أنْ يكونَ ظُلْماً أوْ تَشَفِّياً أوْ غِلْظَةً أوْ قسوةً، بلْ هوَ محضُ حِكْمَتِهِ وعدلِهِ ووضعِهِ الأشياءَ مَوَاضِعَهَا، وهوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ عليهِ الحمدَ والثناءَ كما يَسْتَحِقُّهُ على إحسانِهِ وثوابِهِ وَنِعَمِهِ، بلْ لوْ وَضَعَ الثوابَ مَوْضِعَ العقوبةِ لكانَ مُنَاقِضاً لحكمتِهِ وَلِعِزَّتِهِ، فَوَضْعُهُ العقوبةَ موضعَهَا هوَ منْ حَمْدِهِ وحكمتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ فهوَ سلامٌ ممَّا يَتَوَهَّمُ أَعْدَاؤُهُ والجاهلونَ بهِ منْ خلافِ حكمتِهِ.
- وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ سَلامٌ من العبثِ والجَورِ والظلمِ، ومِنْ تَوَهُّمِ وُقوعِهِ على خلافِ الحكمةِ البالغةِ.
- وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ سلامٌ من التناقضِ، والاختلافِ، والاضطرابِ، وخلافِ مصلحةِ العبادِ وَرَحْمَتِهِم والإحسانِ إليهم، وخلافِ حِكْمَتِهِ، بلْ شَرْعُهُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ.
- وكذلكَ عَطَاؤُهُ سلامٌ منْ كونِهِ مُعَاوَضَةً أوْ لحاجةٍ إلى المُعْطَى.
- وَمَنْعُهُ سَلامٌ من البخلِ وخوفِ الإملاقِ؛ بلْ عَطَاؤُهُ إحسانٌ مَحْضٌ لا لمعاوضةٍ ولا لحاجةٍ، ومنعُهُ عَدْلٌ مَحْضٌ وَحِكْمَةٌ لا يَشُوبُهُ بُخْلٌ ولا عَجْزٌ.
- واستواؤُهُ وَعُلُوُّهُ على عرشِهِ سلامٌ منْ أنْ يَكُونَ مُحْتَاجاً إلى ما يَحْمِلُهُ أوْ يَسْتَوِي عليهِ، بل العرشُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وَحَمَلَتُهُ مُحْتَاجُونَ إليهِ؛ فهوَ الغنيُّ عن العرشِ وعنْ حَمَلَتِهِ وعنْ كلِّ ما سِوَاهُ، فهوَ اسْتِوَاءٌ وَعُلُوٌّ لا يَشُوبُهُ حَصْرٌ، ولا حَاجَةٌ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ، ولا إحاطةُ شيءٍ بهِ سبحانَهُ وتَعَالَى؛ بلْ كانَ سبحانَهُ ولا عَرْشَ، ولمْ يَكُنْ بهِ حاجةٌ إليهِ، وهوَ الغنيُّ الحميدُ، بل اسْتِوَاؤُهُ على عرشِهِ وَاسْتِيلاؤُهُ على خَلْقِهِ منْ مُوجَباتِ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ بوجهٍ ما.
- ونزولُهُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا سلامٌ مِمَّا يُضَادُّ عُلُوَّهُ، وسلامٌ ممَّا يُضَادُّ غِنَاهُ.
- وكمالُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَوَهَّمُ مُعَطِّلٌ أوْ مُشَبِّهٌ، وَسَلامٌ منْ أنْ يَصِيرَ تَحْتَ شَيْءٍ أوْ مَحْصُوراً في شيءٍ، تَعَالَى اللهُ ربُّنَا عنْ كلِّ ما يُضَادُّ كَمَالَهُ.
- وَغِنَاهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.
- وَمُوَالاتُهُ لأوليائِهِ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ ذلٍّ كما يُوَالِي المخلوقُ المخلوقَ، بلْ هيَ موالاةُ رحمةٍ وخيرٍ وإحسانٍ وبِرٍّ كما قالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]. فَلَمْ يَنْفِ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مُطْلَقاً، بلْ نَفَى أنْ يَكُونَ لهُ وَلِيٌّ من الذُّلِّ.
- وكذلكَ مَحَبَّتُهُ لِمُحِبِّيهِ وَأَوْلِيَائِهِ سلامٌ منْ عوارِضِ مَحَبَّةِ المخلوقِ للمخلوقِ منْ كَوْنِهَا مَحَبَّةَ حاجةٍ إليهِ، أوْ تَمَلُّقٍ لهُ، أو انْتِفَاعٍ بِقُرْبِهِ، وسلامٌ مِمَّا يَتَقَوَّلُهُ المُعَطِّلُونَ فيها.
- وكذلكَ ما أَضَافَهُ إلى نفسِهِ من اليدِ والوجهِ، فإنَّهُ سلامٌ مِمَّا يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.
فتَأَمَّلْ كَيْفَ تَضَمَّنَ اسمُهُ " السلامُ " كلَّ ما نُزِّهَ عنهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى. وَكَمْ مِمَّنْ حَفِظَ هذا الاسمَ لا يَدْرِي ما تَضَمَّنَهُ منْ هذهِ الأسرارِ والمعانِي.
واللهُ المُسْتَعَانُ المَسْئُولُ أنْ يُوَفِّقَ للتعليقِ على الأسماءِ الحُسْنَى على هذا النَّمَطِ؛ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ)([2]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) أحكامُ أهلِ الذمَّةِ (1/153) .
([2]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/133-137) .
مُلْحَقٌ:
وقالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في شفاءِ العليلِ (2/65 - 66): (وكذلك اسمُه السلامُ. فإنه الذي سَلِمَ مِنَ العيوبِ والنقائِصِ. ووَصْفُهُ بالسلامِ. أَبْلَغُ في ذلك من وَصْفِه بالسَّالِمِ. ومن مُوجِباتِ وَصْفِهِ بذلك سَلامَةُ خَلْقِه مِن ظُلْمِه لهم.
فسَلِمَ سُبحانَهُ من إرادةِ الظلمِ والشرِّ، ومن التسميةِ به، ومن فِعلِه، ومن نِسبَتِه إليه. فهو السلامُ من صفاتِ النقصِ وأفعالِ النقصِ وأسماءِ النقصِ، المُسَلِّمُ لخَلقِه من الظلمِ، ولهذا وَصَفَ سبحانَهُ ليلةَ القدرِ بأنها سلامٌ، والجنةَ بأنها دارُ السلامِ، وتحيةُ أهلِها السلامُ. وأَثنَى على أوليائِه بالقولِ السلامِ. كلُّ ذلك السالِمُ مِنَ العيوبِ).
وقال أيضًا في هدايةِ الحَيارَى (524):
السادسَ عَشَرَ أنه قُدُّوسٌ سَلاَمٌ فهو المُبَرَّأُ مِن كُلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ وآفَةٍ.
وقالَ أيضًا في القصيدةِ النونيةِ (247):
وَهُوَ السَّلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ سَالِمٌ = مِنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَمِنْ نُقْصَانِ
وقالَ أيضًا في أحكامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1/153- 155): (وَمِنْ بَعْضِ تَفاصِيلِ ذلك أنه الحيُّ الذي سَلِمَتْ حَياتُهُ مِنَ المَوْتِ والسِّنَةِ والنومِ والتغيُّرِ، القادرِ الذي سَلِمَتْ قُدْرَتُهُ مِنَ اللُّغُوبِ؛ والتعبِ والإعياءِ والعجزِ عمَّا يُرِيدُ، العليمُ الذي سَلِمَ عِلْمُه أن يَعْزُبَ عنه مِثقالُ ذَرَّةٍ أو يَغِيبَ عنه معلومٌ من المعلوماتِ؛ وكذلك سائرُ صِفاتِه على هذا. فرِضاه سُبحانَهُ سَلامٌ أن يُنَازِعَهُ الغَضَبُ؛ وحِلْمُهُ سَلاَمٌ أَنْ يُنَازِعَهُ الانتقامُ؛ وإرادَتُهُ سَلامٌ أن يُنَازِعَهَا الإكراهُ، وقُدْرَتُهُ سَلاَمٌ أَنْ يُنَازِعَهَا العَجْزُ؛ ومَشِيئَتُه سلامٌ أن يُنازِعَها خلافُ مقتضاهُ، وكَلامُه سلامٌ أن يَعْرِضَ له كَذِبٌ أو ظلمٌ، بل تَمَّتْ كَلِمَاتُه صِدقًا وعَدْلاً، ووَعْدُهُ سَلامٌ أن يَلْحَقَهُ خُلْفٌ. وهو سلامٌ أن يكونَ قبلَهُ شيءٌ أو بعدَه شيءٌ أو فوقَهُ شيءٌ أو دُونَهُ شيءٌ؛ بل هو العالِي على كلِّ شيءٍ، وفوقَ كُلِّ شيءٍ، وقبلَ كُلِّ شيءٍ، وبعدَ كُلِّ شيءٍ والمحيطُ بكلِّ شيءٍ، وعطاؤُه ومَنْعُهُ سلامٌ أن يَقَعَ في غَيْرِ مَوقِعِه ومَغْفِرَتِه سلامٌ أن يُبالِيَ بها أو يَضِيقَ بذُنُوبِ عِبادِهِ، أو تَصْدُرَ عن عجزٍ عن أخذِ حقِّه كما تكونُ مغفرةُ الناسِ؛ ورَحمَتُه وإحسانُه ورأفتُه. وبِرُّه وجُودُه ومُوالاتُه لأوليائِه وتحبُّبُه إليهم وحنانُه عليهم وذِكرُه لهم وصَلاتُه عليهم سلامٌ أن يكونَ لحاجةٍ منه إليهِم أو تعزُّزٌ بهم أو تَكَثُّرٌ بهم. وبالجملةِ فهو السلامُ مِن كل ما ينافِي كمالَهُ المُقَدَّسَ بوجهٍ من الوجوهِ.
وأخطأَ كلَّ الخطأِ مَن زَعَمَ أنه من أسماءِ السُّلوبِ، فإن السلبَ المحضَ لا يتضمنُ كَمالاً، بل اسمُ (السلامِ)، مُتضمِّنٌ للكَمالِ مُتضمِّنٌ للكمالِ السالمِ من كلِّ ما يُضادُّه وإذا لم تَظْلِمْ هذا الاسمَ ووَفَّيْتَهُ مَعْنَاهُ وَجَدْتَهُ مُسْتَلْزِمًا لإرسالِ الرسُلِ وإنزالِ الكُتبِ، وشَرْعِ الشرائعِ، وثُبوتِ المَعادِ، وحُدوثِ العالَمِ، وثُبوتِ القضاءِ والقدَرِ، وعلوِّ الربِّ تعالَى على خلقِه، ورُؤيتِه لأفعالِهم، وسَمْعِه لأصواتِهم، واطلاعِهِ على سرائرِهم وعلانِيَتِهِم، وتَفرُّدِه بتَدْبِيرِهِم، وتَوَحُّدِه في كمالِه المُقَدَّسِ عنْ شَرِيكٍ بوَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ، فهو السلامُ الحقُّ من كلِّ وجهٍ كما هو النزيهُ البريءُ عن نقائصِ البشرِ من كلِّ وجهٍ.
ولما كانَ سبحانَهُ موصوفًا بأن له يَدَيْنِ لم يكن فيهما شِمالٌ، بل كلتا يديهِ يمينٌ مُباركةٌ، كذلك أسماؤُه كُلُّها حُسْنَى، وأفعالُه كُلُّها خيرٌ، وصفاتُه كلُّها كمالٌ، وقد جعلَ سُبحانَهُ السلامَ تحيةَ أوليائِه في الدُّنيا، وتحيتَّهُم يومَ القيامةِ ولما خَلَقَ آدمَ وكَمُلَ خَلْقُه فاستَوَى قال اللهُ له: اذهَبْ إلى أولئكَ النَّفَرِ من الملائكةِ، فاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ بِهِ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وقالَ تعالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقال: {واللهُ يَدْعُو إلَى دارِ السلامِ}.
وقد اختُلِفَ في تسميةِ الجنةِ (دارَ السلامِ)، فقيلَ: السلامُ هو اللهُ، والجنةُ دارُه وقيلَ: السلامُ هو السلامةُ، والجنةُ دارُ السلامةِ من كلِّ آفةٍ وعيبٍ ونقصٍ وقيلَ: سُمِّيَتْ (دارَ السلامِ) لأن تَحِيَّتَهُم فيها سلامٌ، ولا تَنافِيَ بين هذه المعانِي كُلِّها.
وأما قولُ المسلِمِ: (السلامُ عليكُم) فهو إخبارٌ للمُسَلَّمِ عليه بسلامَتِه من غِيلَةِ المسلمِ وغِشِّهِ ومَكْرِه ومكروهٍ يَنالُهُ منه، فيَرُدُّ الرادُّ عليه مثلَ ذلك: أي فَعَلَ اللهُ ذلك بك، وأَحَلَّه عليكَ، والفرقُ بين هذا الوجهِ وبين الوجهِ الأولِ أنه في الأولِ خَبَرٌ، وفي الثانِي طلبٌ، ووجهٌ ثالثٌ: وهو أن يكونَ المعنَى: اذكُرِ اللهَ الذي عافاكَ من المكروهِ وأَمَّنَكَ مِنَ المَحْذُورِ، وسَلَّمَكَ مما تخافُ، وعَامِلْنَا مِنَ السلامةِ والأمانِ بمِثلِ ما عَامَلَكَ به، فيردُّ الرادُّ عليه مثلَ ذلك. ويُستحَبُّ له أن يَزِيدَهُ، كما أنَّ مَن أَهْدَى لك هديةً يُستحَبُّ لكَ أن تُكافِئَه بزيادةٍ عليها، ومَن دَعا لك يَنْبَغِي أن تدعُوَ له بأكثرَ مِن ذلك . ووجهٌ رابعٌ: وهو أن يكونَ معنَى سلامِ المُسَلِّمِ وردِّ الرادِّ بِشارةً من اللهِ سبحانَهُ، جعلَهَا على ألسنةِ المُسلمينَ لبعضِهم بعضًا بالسلامةِ من الشرِّ وحُصولِ الرحمةِ والبرَكَةِ، وهي دوامُ ذلك وثباتُه، وهذه البِشَارَةُ أُعْطُوها لدُخولِهِم في دينِ الإسلامِ، فأعظمُهُم أجرًا أحسنُهم تحيةً، وأسبقُهُم في هذه البِشارَةِ، كما في الحديثِ: ((وخيرُهما الذي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بالسلامِ)).
واشتقَّ اللهُ سبحانَهُ لأوليائِه مِن تَحِيَّةِ بَيْنِهمُ اسمًا من أسمائِه، واسمِ دينِه الإسلامِ الذي هو دينُ أنبيائِه ورُسُلِه وملائكتِه. قال تعالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.
ووجهٌ خامسٌ: وهو أن كلَّ أمةٍ من الأممِ لهم تحيةٌ بينَهُم من أقوالٍ وأعمالٍ كالسجودِ وتقبيلِ الأيدِي وضربِ الجُنوكِ وقولِ بعضِهم: أَنْعِمْ صباحًا وقولِ بعضِهم: عِشْ أَلْفَ عَامٍ، ونحوِ ذلك؛ فشرَعَ اللهُ تبارَكَ وتعالَى لأهلِ الإسلامِ (سلامٌ عليكُم)، وكانت أحسنَ من جميعِ تحياتِ الأممِ بينَها، لِتَضَمُّنِهَا السلامةَ التي لا حياةَ ولا فلاحَ إلا بِهَا، فهي الأصلُ المُقَدَّمُ على كلِّ شيءٍ.
وانتفاعُ العبدِ بحياتِه إنما يَحْصُلُ بشيئينِ: بسلامتِه من الشرِّ، وحصولِ الخيرِ. والسلامةُ من الشرِّ مُقدَّمَةٌ على حصولِ الخيرِ وهي الأصلُ، فإن الإنسانَ بل وكلُّ حيوانٍ إنما يَهْتَمُّ بسلامتِه أولاً وغنيمَتِه ثانيًا. على أن السلامةَ المُطلقةَ، تتضمَّنُ حُصولَ الخيرِ فإنه لو فَاتَهُ حصَلَ له الهلاكُ والعَطَبُ أو النَّقْصُ ففواتُ الخيرِ يَمْنَعُ حُصولَ السلامةِ المُطلَقَةِ فتَضَمَّنَتِ السلامةُ نَجاةَ العبدِ منَ الشرِّ، وفَوْزَهُ بالخيرِ، مع اشتقاقِها منِ اسمِ اللهِ.
والمقصودُ أن السلامَ اسمُه ووصفُه وفِعلُه، والتلفُّظَ به ذِكرٌ له، كما في (السُّنَنِ) أن رجلاً سلَّمَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ فلم يَرُدَّ عليه حتى تَيَمَّمَ وردَّ عليه وقالَ: ((إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إلا على طَهارَةٍ)). فحقيقٌ بتحيةٍ هذا شأنُها أن تُصانَ عن بَذْلِهَا لغيرِ أهلِ الإسلامِ، وألا يُحمَى بها أعداءُ القُدُّوسِ السلامِ. ولهذا كانَت كُتبُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ إلى ملوكِ الكفارِ: ((السلامُ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى)) ولم يَكْتُبْ لكَافِرٍ: سلامٌ عليكُمْ أصلاً، فلهذا قالَ في أهلِ الكتابِ: ((لاَ تَبْدَؤُوهُمْ بِالسلامِ)).