شرح ابن القيم (ت:751هـ)[الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( التَّوَّابُ ):
(وكذلكَ التوَّابُ منْ أوصافِهِ = والـتَّوْبُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بتوبةِ عبدِهِ وَقَبُـولُهَـا = بعدَ المَتَابِ بِمِنَّـةِ المنـَّـانِ([1]))
([فـ]توبةُ العبدِ إلى اللهِ محفوفةٌ بتوبةٍ من اللهِ عليهِ قَبْلَهَا، وتوبةٍ منهُ بعدَهَا، فتوبتُهُ بينَ تَوْبَتَيْنِ منْ ربِّهِ: سابقةٍ ولاحقةٍ؛ فإنَّهُ تَابَ عليهِ أَوَّلاً إِذْناً وَتَوْفِيقاً وَإِلْهَاماً فتابَ العبدُ؛ فَتَابَ اللهُ عليهِ ثانياً قَبُولاً وإثابةً.
قالَ اللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 117-118]. فَأَخْبَرَ سبحانَهُ أنَّ تَوْبَتَهُ عليهم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُم، وأنَّهَا هيَ التي جَعَلَتْهُم تَائِبِينَ. فكانتْ سَبَباً مُقْتَضِياً لِتَوْبَتِهِم، فَدَلَّ على أنَّهُم ما تَابُوا حتَّى تَابَ اللهُ تَعَالَى عليهم، والحكمُ يَنْتَفِي لانتفاءِ عِلَّتِهِ.
وَنَظِيرُ هذا: هِدَايَتُهُ لِعَبْدِهِ قبلَ الاهتداءِ، فَيَهْتَدِي بهدايتِهِ، فَتُوجِبُ لهُ تلكَ الهدايَةُ هدايَةً أُخْرَى يُثِيبُهُ اللهُ بها هدايَةً على هدايتِهِ، فإنَّ مِنْ ثوابِ الهُدَى: الهُدَى بعدَهُ، كما أنَّ منْ عُقُوبةِ الضلالةِ: الضلالةَ بَعْدَهَا. قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمَّد: 17]. فَهَدَاهُم أَوَّلاً فَاهْتَدَوْا، فَزَادَهُم هُدًى ثانياً. وَعَكْسُهُ في أهلِ الزَّيْغِ، كقولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]. فهذهِ الإزاغةُ الثانيَةُ عُقُوبَةٌ لهم على زَيْغِهِم.
وهذا القدرُ منْ سرِّ اسْمَيْهِ (( الأوَّلِ والآخرِ )) فهوَ المُعِدُّ وهوَ المُمِدُّ، ومنهُ السَّبَبُ والمُسَبَّبُ، وهوَ الذي يُعِيذُ منْ نفسِهِ بنفسِهِ، كما قالَ أَعْرَفُ الخلقِ بهِ: ((وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ)).
والعبدُ تَوَّابٌ، واللهُ تَوَّابٌ، فتوبةُ العبدِ: رُجُوعُهُ إلى سَيِّدِهِ بعدَ الإِبَاقِ، وتوبةُ اللهِ نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وإمدادٌ)([2]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
(1) القصيدةُ النُّونيَّةُ (246).
(2) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/319-320) .
مُلْحَقٌ:
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى– (ومنها تعريفُه عبادَه كَرَمَهُ سُبحانَهُ في قَبُولِ تَوبتِه ومَغفِرَتِه له على ظُلمِه وإِساءَتِه، فهو الذي جادَ عليه بأنْ وَفَّقَهُ للتوبةِ، وأَلْهَمَهُ إِياهَا، ثم قَبِلَهَا منه فتابَ عليه أولاً وآخِرًا، فتوبةُ العبدِ محفوفةٌ بتوبةٍ قَبلَها عليه من الله إِذنًا وتَوفيقًا وتوبةً ثانيةً منه عليه قَبولاً ورضًا، فله الفضلُ في التوبةِ والكرمِ أولاً وآخِرًا لا إلهَ إلا هو) مفتاحُ دارِ السعادةِ (2/ 273).
* وقال أيضًا: (وشَرعَ لهم التوبةَ الهادمةَ للذُّنوبِ فوَفَّقَهُم لفِعْلِها ثم قَبِلَها منهم) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (323).
* وقال أيضًا: (فكَما رَجَعَ التائبُ إلى اللهِ بقلبِه رُجوعًا تَامًّا رَجعَ اللهُ عليه بمنزلتِهِ وحَالِهِ بل ما رَجعَ العبدُ إلى اللهِ تعالَى حتى رَجَعَ اللهُ بقلبِه إليه أولاً فرَجَعَ اللهُ إليه وتابَ عليه ثانيًا، فتوبةُ العبدِ مَحفوفَةٌ بتَوْبَتَيْنِ مِن اللهِ: توبةٌ منه إِذنًا وتَمكينًا فتابَ بها العبدُ، وتابَ اللهُ عليه قَبُولاً ورِضًى. فتوبةُ العبدِ بينَ تَوبتَينِ مِن اللهِ، وهذا يَدُلُّ على عِنايَتِهِ سُبحانَهُ وبِرِّهِ ولُطفِه بعَبدِه التائبِ). طريقُ الهجرتينِ (237 – 238).