دراسة التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم
تقدّم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ أصحابه القرآن، وعلّمهم معانيه، وأدّبهم بآدابه، وأرشدهم وزكّاهم، وعلّمهم الحكمة، وكان لهذا التعليم أثره في تفهّم الصحابة رضي الله عنهم لمعاني القرآن، وحسن أخذهم له، وعنايتهم به، وقيامهم بحقه تحمّلاً وأداء لألفاظه ومعانيه، وعملاً بما فيه.
وقد رضي الله عنهم، ورضيهم لصحبة نبيّه، وحَمْلِ أمانة دينه، وتبليغ شرعه، والجهاد في سبيله، فكانوا قائمين بما أمرهم الله به خير قيام، مجتمعين على الحقّ والهدى، كما أثنى الله عليه بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
وكان لصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهودهم وقائع التنزيل، وحسن معرفتهم بدعوته صلى الله عليه وسلم، ومشاركتهم فيها ، ونزول القرآن بلسانهم، وعلى ما يعهدون من فنون الخطاب ، كان لكل ذلك أثر عظيم في معرفتهم بمعاني القرآن.
وكان من الصحابة قراء وفقهاء وقضاة ومعلّمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.
وكان لبعضهم اختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض شؤونه؛ فمنهم من أطال صحبته في مكة والمدينة وفي غزواته وأسفاره وكثير من شؤونه كأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وبقيّة العشرة، ثم بقيّة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا معه حقّ الجهاد.
ومنهم من اختصّ بخواصّ شؤونه كأزواجه أمّهات المؤمنين اللاتي تتلى في بيوتهنّ آيات الله والحكمة، وكمواليه والمعتنين بخدمته صلى الله عليه وسلم كبلال بن رباح وأنس بن مالك.
ومنهم من كان له فضل عناية بتلقّي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرائه للصحابة وكثرة تلاوته كأبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي الدرداء ومجمّع بن جارية وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وغيرهم.
● طرق الصحابة في تعلّم التفسير وتعليمه:
كان للصحابة طرق في تدارس معاني القرآن وتعلّمه وتعليمه منها:
1: طريقة الإقراء والتعليم.
- عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن). رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
ورواه الطحاوي بلفظ: (كنا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فما نعلم العشر التي بعدهن حتى نتعلم ما أنزل في هذه العشر من العمل).
وكان المتصدّرون للإقراء من الصحابة علماء في التفسير، ومحلّ للأسوة والاقتداء، ولم يكن تعليمهم للقرآن مقتصراً على مجرّد أداء الحروف، بل كان تعليما لحروفه ومعانيه، وتفقيها في أحكامه، وإرشاداً لمواعظه وزواجره وآدابه، ولذلك قال أنس بن مالك: (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا) رواه الإمام أحمد، وأصل الحديث في الصحيحين.
(جَدَّ فينا) أي: عظم شأنه، وارتفع قدره.
وذكر مالك في الموطّأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر «مكث على سورة البقرة، ثماني سنين يتعلمها»
ومضى ذكر بعض الأحاديث والآثار في هذا الباب.
قال أبو جعفر الطحاوي: (فكان فيما روينا كيفية تعليم الناس القرآن، وكيفية أخذهم إياه، وفي ذلك من المشقّة على من كان يُعلِّمه، وعلى من كان يتعلَّمه ما لا خفاء به على سامعي هذه الآثار).
2: طريقة القراءة والتفسير
- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن مسعود: " أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرؤوا، وفسر لهم" ). رواه أبو عبيد وصححه ابن كثير.
3: طريقة السؤال والجواب:
يسأل العالم أصحابه؛ فإن أصابوا أقرّهم على صوابهم، وأثنى على علمهم، وإن أخطؤوا بيّن لهم الصواب، ومن أمثلة ذلك:
أ: ما رواه ابن جرير من طريق الأسود بن هلالٍ المحاربي، قال: قال أبو بكرٍ: " ما تقولون في هذه الآية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال: فقالوا " ربنا الله ثم استقاموا من ذنبٍ، قال: فقال أبو بكرٍ: " لقد حملتم على غير المحمل، قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إلهٍ غيره ".
ب: ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟
فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم؛ فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.
قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا، وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.
فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟
فقلت: لا.
قال: فما تقول؟
قلت: «هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له» قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} «وذلك علامة أجلك» {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} فقال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تقول».
ج: قال السيوطي: (أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي قال: كان حذيفة جالسا في حلقة فقال: ما تقولون في هذه الآية {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذٍ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} فقالوا: نعم يا حذيفة من جاء بالحسنة ضعفت له عشر أمثالها.
فأخذ كفا من حصى يضرب به الأرض وقال: تبا لكم، وكان حديداً وقال: من جاء بلا إله إلا الله وجبت له الجنة، ومن جاء بالشرك وجبت له النار).
4: طريقة التدارس والتذاكر
وقد علموا حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن وتدارسه، ففي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وكان لتدارسهم القرآن أثر في استثارة معانيه والتفقه فيه، والوقوف على عجائبه.
- قال عبد الله بن دينار: كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس عن الشيء من القرآن ثم يقول: «غص غواص» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
- وروى أبو إسحاق، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين». رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والطبراني في المعجم الكبير واللفظ له.
وفي لفظ عند المروزي في "قيام الليل": «إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين»
والمراد بإثارة القرآن بحث معانيه والتفكّر فيه وتدارسه.
قال شمر بن حمدويه الهروي: (تثوير القرآن: قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ومعانيه).
- قال شعبة: سمعت علي بن الحكم، يحدث عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون كان حديثهم الفقه، إلا أن يأمروا رجلا فيقرأ عليهم سورة، أو يقرأ رجل سورة من القرآن» رواه ابن سعد في الطبقات.
وفقههم إنما كان في نصوص الكتاب والسنة.
- الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنَّه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر، فمرَّ بهما أبيّ بن كعب؛ فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه، هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟
قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ " قال موسى: لا، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}، قال: {ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا}، فوجدا خضرا؛ فكان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه». رواه البخاري.
5: تصحيح الخطأ الشائع في فهم الآية
- عن قيس بن أبي حازم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب فقال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه". رواه الإمام أحمد.
6: الرد على من تأوّل تأولاً خاطئاً في القرآن.
- عن ثور بن زيدٍ الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، أن قدامة بن مظعونٍ، شرب الخمر بالبحرين فشهد عليه ثم سئل فأقر أنه شربه، فقال له عمر بن الخطاب: ما حملك على ذلك، فقال: لأن الله يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ، فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا، وعملوا الصالحات}، وأنا منهم أي من المهاجرين الأولين، ومن أهل بدرٍ، وأهل أحدٍ، فقال: للقوم أجيبوا الرجل فسكتوا، فقال لابن عباسٍ: أجبه، فقال: إنما أنزلها عذرًا لمن شربها من الماضين قبل أن تحرم وأنزل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ} من عمل الشيطان، حجةٌ على الباقين ثم سأل من عنده عن الحد فيها، فقال علي بن أبي طالبٍ: إنه إذا شرب هذي، وإذا هذي افترى فاجلدوه ثمانين). رواه النسائي في السنن الكبرى.
وفي رواية أن قدامة قال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم تجلدوني، فقال عمر رضي الله عنه: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا} الآية، قال عمر رضي الله عنه: أخطأت التأويل , إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك).
- وقال سعيد بن المهلب: حدثني طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله تعالى فيها خلود أهل النار؛ فقال: يا طلق، أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني؟
قال: فاتضعت له، فقلت: لا والله، بل أنت أقرأ لكتاب الله مني، وأعلم بسنته مني.
قال: إن الذين قرأت هم أهلها، هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال: صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجون من النار بعدما دخلوا". ونحن نقرأ كما قرأت: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير (40) }). رواه الإمام أحمد في مسنده وابن مردويه في تفسيره كما في تفسير ابن كثير، واللالكائي في أصول السنة.
7: الدعوة بالقرآن
فكانوا يدعون إلى الله عزّ وجلّ بالقرآن، ويبيّنون للناس ما أنزل الله فيه، بأساليب حسنة فيها تفسير وتقريب، وترغيب وترهيب، وإرشاد وتبصير.
وقد قال الله تعالى: {فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد} ، وقد تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم أساليب التذكير بالقرآن وآدابه.
- قال مالك بن سعيد بن الحسن: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال: حججت أنا وصاحب لي، وابن عباس على الحج، فجعل يقرأ سورة النور ويفسرها؛ فقال صاحبي: يا سبحان الله، ماذا يخرج من رأس هذا الرجل، لو سمعت هذا الترك لأسلمت). رواه الحاكم في المستدرك وصححه.
- ومما حُفظ من خطبته تلك ما رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة من طريق ابن كاسب الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق قال: " سمعت ابن عباس وكان على الموسم فخطب الناس ثم قرأ سورة النور فجعل يفسرها {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} ، ثم قال: النور في قلب المؤمن وفي سمعه وبصره مثل ضوء المصباح كضوء الزجاجة، كضوء الزيت {أو كظلمات في بحر لجي} والظلمات في قلب الكافر كظلمة الموج كظلمة البحر كظلمات السحاب. فقال صاحبي: ما رأيت كلاما يخرج من رأس رجل!! لو سمعت هذا الترك لأسلمت ".
قال مجاهد: «كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نورا» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
8: مناظرة المخالفين وكشف شبههم
كما في مناظرة ابن عباس للخوارج، والقصة مذكورة بطولها في مصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للنسائي ومستدرك الحاكم وغيرها.
9: إجابة السائلين عن التفسير
وأمّا إجاباتهم لأسئلة السائلين عن معاني القرآن؛ فكثيرة جداً.
- قال عطاء بن أبي رباح: «ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس كانوا يجيئون أصحاب القرآن فيسألونه، ثم يجيء أهل العلم فيسألونه، ثم يجيء أصحاب الشعر فيسألونه» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
- وقال أبيّ بن كعب لزرّ بن حبيش: لا تريد أن تدع آية في كتاب الله تعالى إلا سألتني عنها!! ) رواه الإمام أحمد.
10: اجتهاد الرأي
وكان من علماء الصحابة من يجتهد رأيه في التفسير – عند الحاجة - إذا لم يجد نصّاً، وكانوا أقرب الأمة إلى التوفيق للصواب، وذلك مثل اجتهاد أبي بكر رضي الله عنه في تفسير الكلالة؛ فإنه قد روي عنه من طرق متعددة أنه قال: «إني قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني والشيطان، والله منه بريء؛ إن الكلالة ما خلا الولد والوالد»
قال الشعبي: (فلما استخلف عمر رضي الله عنه، قال: إني لأستحيي من الله تبارك وتعالى أن أخالف أبا بكر في رأي رآه). رواه ابن جرير.
وهذا الاجتهاد من أبي بكر قد أصاب فيه رضي الله عنه، وهذا من دلائل حسن اجتهاده، وأدبه في الاجتهاد؛ فإنّه بيّن للصحابة أنه رأي يحتمل الصواب والخطأ عنده، وأنّه إن كان خطأ فالله برئ منه لا يصح أن يُنسب إليه خطأ على أنّه مراده.
ودليل إصابته ما في الصحيحين من حديث محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: مرضت مرضاً، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي؛ فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي، فأفقت؛ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء، حتى نزلت آية الميراث {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}.
وفي رواية عند مسلم فقلت: «يا رسول الله، إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الميراث».
فقد يكون مستند أبي بكر في اجتهاده علمه بسبب النزول، وغاب عنه قول جابر للنبي صلى الله عليه وسلم"إنما يرثني كلالة"، أو أن القصة رويت بالمعنى.
والمقصود من كل ما تقدّم بيان عناية الصحابة رضي الله عنهم بتفسير القرآن تعلّما وتعليماً ودعوة.
سبب قلّة الرواية عن بعض أكابر الصحابة وكثرتها عن أحداثهم
قال محمد بن عمر الواقدي: (إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن العباس، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، ونظرائهم.
وكل هؤلاء كان يعدّ من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم، وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني حارثة الأسلميين، وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه.
فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم. ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم). أورده ابن سعد في طبقاته.