الخلاصة في حكم بيع المصاحف
قال أبو زكريَّا يَحْيَى بْنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ (ت: 676هـ):(يصح بيع المصحف وشراؤه ولا كراهة في شرائه، وفي كراهة بيعه وجهان لأصحابنا:
أصحهما: وهو نص الشافعي أنه يكره، ومن قال لا يكره بيعه وشراؤه الحسن البصري وعكرمة والحكم بن عيينة وهو مروي عن ابن عباس وكرهت طائفة من العلماء بيعه وشراؤه وحكاه ابن المنذر عن علقمة وابن سيرين والنخعي وشريح ومسروق وعبد الله بن يزيد.
وروي عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري التغليظ في بيعه.
وذهبت طائفة إلى الترخيص في الشراء وكراهة البيع حكاه ابن المنذر عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رضي الله عنهم أجمعين والله أعلم.).[التبيان في آداب حملة القرآن: 197]
قالَ جلالُ الدينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بكرِ السيوطيُّ (ت: 911هـ): (وقد حصل من ذلك ثلاثة أقوال للسلف ثالثها كراهة البيع دون الشراء، وهو أصح الأوجه عندنا كما صححه في شرح المهذب ونقله في زوائد
الروضة عن نص الشافعي، قال الرافعي: وقد قيل إن الثمن متوجه إلى الدفتين لأن كلام الله لا يباع، وقيل إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى.
وقد تقدم إسناد القولين إلى ابن الحنفية وابن جبير وفيه قول ثالث؛ أنه بدل منهما معا).[الإتقان في علوم القرآن: 6/2251-2254]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(لأهل العلم فى مسألة بيع المصحف وشراءه ثلاثة أقوال فى الجملة :
أحدهما: منع البيع والشراء معا على اختلاف بين القائلين بذلك فى كون المنع على التحريم أو الكراهة , وهل المراد بالكراهة عن القائلين بها كراهة تحريم أم كراهة تنزيه ؟ على ما يأتى تفصيله عن تسمية القائلين بالمنع .
والقول الثانى : الترخيص فى الشراء دون البيع
والقول الثالث : من أقوال العلم الترخيص فى بيع المصاحف وشرائها معا , ثم أن القائلين بالترخيص فى الشراء والبيع معا منهم من جعل ذلك على الإطلاق,ومنهم من قيده بالحاجة ,ومنهم من رخص فيه ما لم يتخذ متجرا
تسمية القائلين بمنع المصاحف وشرائها :
وقد ذهب إلى القول بمنع المصاحف وشرائها معا فريق من أهل العلم حتى قيل بأنه مذهب الصحابة رضوان الله عليهم جميعا .
وقد غلظ فيه جماعة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وكان يقول: (لا تبيعوا المصاحف ولا تشتروها )وفى رواية عنه رضي الله عنه أنه كره بيع المصاحف , قال : ( لو لم يجدوا من يشتريها ما كاتبوها )
والقول بالمنع من بيع المصاحف وشرائها مروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه , فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبى داود والبيهقى وابن حزم عن علقمة عن عبد الله :( أنه كره شراء المصاحف وبيعها )
والقول بالتغليظ فى بيع المصاحف محكى عن أبى موسى الأشعرى وأصحابة , فمن ذلك ما رواة قتادة عن زرارة بن أوفى الخرشى عن مطرف بن مالك قال : ( شهدت فتح تستر مع أبى موسى الأشعرى فأصبنا دانيال بالسوس ومعه ربعة فيها كتاب ومعنا أجير نصرانى , فقال : تبعونى هذه الربعة وما فيها ؟ قالوا : إن كان فيها ذهب أو فضة أو كتاب الله لم نبعك . قال : فإن الذى فيها كتاب الله , فكرهوا بيعه . قال : فبعناه الربعة بدرهمين , ووهبنا له الكتاب . قال قتادة : فمن ثم كره المصاحف ,لأن الأشعرى والصحابة كرهوا بيع ذلك الكتاب ). وهذا لفظ المحلى .
ثم قال ابن حزم إثر روايته لهذا الأثر : (قال أبو محمد : إنما كرهوا البيع نفسه ليس من أجل أن المشترى كان نصرانيا , ألا ترى أنهم قد وهبوه له بلا ثمن )
وهو مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما , فقد أخرج عبد الرزاق بسنده عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر : ( وددت أنى قد رأيت في الذين يبتاعون المصاحف أيدي تقطع)
وأخرجه البيهقي بسنده عن سالم بن عبد الله قال : قال ابن عمر (لوددت أن الأيدي قطعت في بيع المصاحف ) أخرجه ابن أبى داود بسنده عن نافع عن ابن عمر قال : (وددت أنى رأيت الأيدي تقطع على بيعها {يعنى المصاحف}).
وبسنده عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عمر ) ليتني لا أموت حتى أرى الأيدي تقطع في بيع المصاحف )
والقول بمنع بيع المصاحف وشرائها رواية عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما , فعن ابن الزبير عن جابر : (أنه كره بيعها وشراءها)
ونسب القول بكراهة بيع المصاحف وشرائها إلى أبى هريرة وعزاه ابن مفلح فى النكت إلى ابن داود فى المصاحف
وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن أبي داود في المصاحف عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : (كان ابن عمر إذا مر بالمصاحف قال:بئس التجارة)
وقال عبد الله بن شقيق العقليلى : (كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يرون بيع المصاحف عظيما , وكانوا يكرهون أرش الصبيان , إلا أن يجئ بالشئ من عنده
قال ابن حزم فى المحلى : ( فهؤلاء أبو موسى الأشعرى , وكل من معه من صاحب أو تابع أيام عمر بن الخطاب وابن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن زيد وجابر بن عبد الله وابن عمر ستة من الصحابة بأسمائهم , ثم جميع الصحابة بإطلاق لا مخالف لهم منهم)
وقد ذهب إلى القول بمنع المصاحف وشرائها معا فريق من أهل العلم حتى قيل بأنه مذهب الصحابة رضوان الله عليهم جميعا
وقد ذهب إلى القول بالمنع من بيع المصاحف وشرائها من التابعين مسروق وشريح وعبد الله ابن يزيد الخطمى ومطرف بن مالك , وعلقمة , وإبراهيم , وعبيدة السلمانى , وابن سيرين , وسالم بن عبد الله بن عمر , وسعيد بن المسيب ,وسعيد بن جبير فى رواية عنه , وأبو سلمة بن عبد الرحمن , وقتادة والزهرى , والشعبى , والحسن , ومجاهد , وأبو العالية, وحماد بن سليمان , وابن علية , وأبو مجلز , وأبو أيوب السختيانى , وحكاه الطحاوى فى اختلاف العلماء عن ابن شبرمة.
وهو مذهب الإمام مالك والشافعى , وقيده بعض أصحابه بما لم يحتج إليه , والمنع مطلقا مذهب أحمد وإسحاق
تسمية المرخصين فى شراء المصحف دون بيعه:
وقد رخص فى شراء المصحف دون بيعه فريق من أهل العلم , وهو رواية عن ابن عباس , وابن عمر , وجابر بن عبد الله , وسعيد بن المسيب
, وسعيد بن جبير , وأبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , والحكم بن عتيبة , ومحمد بن على بن الحسين , وإبراهيم النخعى فى رواية عنه , وهو رواية عن الإمامين الشافعى , وأحمد , وهو أحد قولى إسحاق بن راهوية .
المرخصون فى بيع المصاحف وشرائها معا :
روى القول بجواز بيع المصاحف وشرائها مطلقا عن طائفة من أهل العلم , منهم ابن عباس فى رواية عنه , وابن جبير فى رواية عنه , وعكرمة ومجاهد وابن الحنفية , والحكم , والشعبى , والحسن البصرى
وفى رواية عنه , أبو الشعثاء جابر بن زيد , ومالك بن دينار , ومطر الوراق , وأبو حكيمة العبدى , وأصحاب الرأى وفيهم أبو الحنفية , وهو رواية ثانية عن الإمام مالك , ورواية ثالثة عن الإمام أحمد , وهو الذى نصره من حزم فى المحلى , وعليه العمل فى زماننا .
قال المرداوى فى تصحيح الفروع عن القول بجواز بيع المصاحف : ( قلت وعليه العمل , ولا يسع الناس غيره إلا أنه قد مال إلى القول بالجواز مع الكراهة وهو من المفردات )
الإستدلال فى مسألة بيع المصحف
وقد احتج كل فريق لما ذهب إليه بحجج من الأثر أو النظر :
أ- حجة من لم يرخص فى بيع المصاحف :
فقد احتج المانعون من بيع المصاحف بأنه إنما منع من بيعه بعوض أو بثمن لما فيه من أخذ العوض على القرآن , وقد وردت الأخبار بالنهى عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : (لا تأكلوا به ).
وقوله : " من أخذ على القرآن أجرا فقد تعجل أجره فى الدنيا "
وقوله لأبى بن كعب : " إن أحببت أن يقوسك الله بقوس من نار فخذها "
واحتجوا للمنع أيضا بما روى عن جمع من الصحابة من كراهة بيع المصاحف وشرائها , كالمروى عن عمر بن الخطاب , وابنه عبد الله , وعبد الله بن مسعود , وأبى موسى الأشعرى وأصحابه , وجابر بن عبد الله , وأبى هريرة , وعبد الله بن عباس, رضى الله عنهم أجمعين , قالوا ولا مخالف لهم من الصحابة حتى قال الإمام أحمد : ( لا اعلم فى بيع المصاحف رخصة ).
قال ابن قدامة فى المغنى وهو فى معرض الأحتجاج للقول بالمنع ) ولنا قول الصحابة رضى الله عنهم ولم نعلم لهم مخالفا فى عصرهم , ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى فتجب صيانته عن البيع والإبتذال .
ب- حجة مجوزى الشراء دون البيع :
واحتج أصحاب هذا الرأى بكونه مرويا عن بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله رضى الله عنهم أجمعين .
قالوا والشراء أسهل لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه , فجاز كما أجاز شراء رباع مكة واستئجار دورها من لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها , وكذلك أرض السواد ونحوها , وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع كراهة كسبه
ج- حجة من رخص فى بيع المصاحف وشرائها معا :
احتج المرخصون على الإطلاق بعموم قوله تعالى :{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}وقوله عزوجل :{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} , فبيع المصاحف كلها حلال إذ لم يفصل لنا تحريمه{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}, ولو فصل تحريمه لحفظه الله تعالى حتى تقوم به الحجة على عبادة .
قالوا :وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم , أنه أقر أصحابه على أخذهم العوض عن الرقية بكتاب الله عزوجل وقال : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " والخبر المشهور " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة من رجل بما معه من القرآن " أى ليعلمها إياه . قالوا ولا نسلم بصحة الآثار المرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم المقتضية لمنع المعاوضة على تعليم القرآن كحديث عبد الرحمن بن شبل :" لا تأكلوا به " , وحديث أبى هريرة : " من أخذ على القرآن أجرا فقد تعجل أجره فى الدنيا "
وحديث أبى : " إن أحببن أن يقوسك بقوس من نار فخذها " , فإن فى أسانيدها جميعا من المقال ما يمنع الإحتجاج بها .
قالوا ولإن المبتذل ما لايباع وأنفس الجواهر تباع وأن بيعه يسهل على الناس الإنتفاع به وتعميم هدايته.
وقالوا ولأن ما يؤخذ فى بيع المصاحف إنما هو ثمن للورق والخط والأنقاش والدفتين , ولأن العمل عليه فى زماننا , وقد عمت البلوى به , ولا يسع الناس غيره , ولكون المنع من بيع المصاحف يفضى إلى انسداد باب الحصول عليها لكل أحد لا سيما مع ندرة المحتسبين وتمكن الكسل من نفوس الكثيرين وقصور الهمم لدى السواد الأعظم من المسلمين ولكون الأخذ بالترخيص فى بيع المصاحف رفعا للحرج وتيسيرا , وذلك مطلب من مطالب الشرع ومقصد من مقاصد الدين ....والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ..). [المتحف فى أحكام المصحف:234-218]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(رهن المصحف لأهل العلم في مسألة رهن المصحف قولان في الجملة:
أحدهما: الجواز بناء على القول بجواز بيعه كما مر في موضوعه من هذا البحث، بل صرح قوم بجواز رهن المصحف حتى على القول بعدم جواز بيعه.
وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى القول بأن رهن المصحف محظور على اختلاف في ماهية هذا الحظر ودرجته، فمنهم من قال بتحريم الرهن، ومنهم من قال بكراهته.
والقول بجواز رهن المصحف هو الذي عليه جماهير أهل العلم، وفيهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد.
قال القاضي أبو يعلي في كتابه الروايتين والوجهين: (نقل حرب وجعفر بن محمد ويعقوب بن بختان وابن مشيش بعضهم يقول: لا أرخص في رهن المصحف، وبعضهم يقول: أكرهه.. فظاهر هذا أنه لا يصح رهنه وهو قياس المذهب، لأنه يمنع من بيعه. والقصد من الرهن وثيقة بالحق حتى إن امتنع من الإيفاء بيع في الدين، فإذا لم يجز بيعه لم يصح رهنه.
ونقل مهنا وعبد الله وابن إبراهيم إذا رهن نده مصحفا فلا يقرأ فيه إلا بإذن ، فظاهر هذا جواز رهنه، ووجهه أن المنع من بيعه مختلف فيه، وكثير من الفقهاء يجيزه ونحن نمنع منه. ويجوز أن يرفع إلى حاكم يرى بيعه، فإذا ليس يقطع على منع البيع ومثل هذا لا يمنع الرهن كالمدبر يجوز رهنه، وإن جاز أن يموت السيد فيتعذر بيعه، وكذلك المعتق لصفة يجوز أن توجد الصفة قبل بيعه فيتعذر بيعه بالعتق كذلك هنا).
وقال ابن عقيل في الفصول: (فصل: نقل جماعة من أصحابنا حرب وجعفر بن محمد ويعقوب ابن بختان وابن مشيش لا أرخص في رهن المصحف. وظاهر هذا يقتضي المنع، لأن المقصود من الرهن الوثيقة بالحق، وأنه متى امتنع عليه الرهن بيع الرهن في الديون والمصحف لا يجوز بيعه عندنا فلا يحصل مقصود الرهن الأقصى.
فصل: ونقل مهنا وعبد الله وابن إبراهيم إذا رهن مصحفا لا يقرأ فيه إلا بإذن فظاهر هذا يقتضي جواز رهنه ومنع القراءة فيه بغير إذن صاحبه، لأن القراءة فيه تصرف في مصالح الرهن وليس للمرتهن ذلك ووجه هذه الرواية أن في المصحف مالية تقبل الشرى فقبلت البيع كسائر الكتب، ولأن البيع يقع على الجلد والورق كما يقع الضمان بالأعواض على ذلك عند إتلافه دون ما فيه من كلام الله تعالى).
وقال الموفق في المغني: (وفي رهن المصحف روايتان.."إحداهما" لا يصح رهنه، نقل الجماعة عنه لا أرخص في رهن المصحف، وذلك لأن المقصود من الرهن واستيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل ذلك إلا ببيعه وبيعه غير جائز.
"الثانية" يصح رهنه وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره).
رهن المصحف عند ذمي:
ثم إن القائلين بجواز رهن المصحف للمسلم قد اختلفوا في جواز رهنه لذمي بشرط أن يكون ذلك على يد مسلم، إذ لا يجوز وضع المصحف تحت يد كافر أبدا فلا يمكن منه بأي عقد من العقود على ما سيأتي تفصيله في مواضعه من هذا البحث.
أما رهن المصحف للذمي بشرطه المذكور فقد قال عنه في الفروع ما نصه: (وعبد مسلم ومصحف لكافر في يد مسلم وجهان).
قال المرداوي في تصحيح الفروع: (وهل يصح رهن المصحف لكافر أم لا؟
أطلق الخلاف:
"أحدهما" يصح، صححه في الرعاية الكبرى. "قلت": وهو الصواب ويكون بيد عدل مسلم إن جوزنا بيعه، وهو ظاهر كلامه في التلخيص والمحرر وغيرهم كما تقدم في التي قبلها.
"والوجه الثاني" لا يصح رهنه، وهو المذهب على ما اصطلحناه.. جزم به في الكافي والفائق، وهو ظاهر ما قدمه في الرعاية الصغرى والحاويين، فإنهما قدما عدم الصحة في رهن العبد المسلم لكافر ثم قالا: وكذا المصحف إن جاز بيعه).
[المتحف: 615-617]