قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لأهل العلم فى توريث المصحف قولان فى الجملة : أحدهما أن المصحف لا يورث , وإنما يكون للذى يقرأ من أهل البيت , وهو الذى حكاه النخعى عن السلف , فقد روى عبد الرازق وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبى شيبة وابن أبى داود والبيهقى عن إبراهيم النخعى أنه قال : ( كان يقال لا يورث المصحف إنما هو لقراء أهل البيت ).
والقول بعدم توريث المصحف هو اختيار طائفة من فقهاء الحنفية , فعندهم تمكن الوراثة من الانتفاع بالمصحف بالمهايأة , إذ تمتنع قسمة المصحف . قالوا : فلو كان مصحف لواحد وسهم من ثلاثة وثلاثين سهما منه لآخر , فإنه يعطى يوما من ثلاثة وثلاثين يوما حتى ينتفع . كذا فى الهندية . فعليه لا يباع المصحف {95}
فى التركة ولم يكن فى الورثة من يقرأ فى الحال , بل يحبس المصحف للقارئ منهم ولو فى المآل , لكن الحصكفى من فقهاء الحنفية قد عبر عن هذا الاختيار بقيل إشارة منه إلى تضعيف .
وذهب جمهور أهل العلم إلى القول بتوريث المصحف لما روى عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبع يجرى للعبد أجرهن بعد موته وهو فى قبره " الحديث , وفيه : " أورث مصحفا " . وروى أبو هريرة رضى الله عنه نحوا منه .{96}
قالوا فهما نص فى المطلوب . وقال الحصفكى فى الدر : ( ويستحق الإرث ولو لمصحف به يفتى , وقيل لا يورث , وإنما هو للقارئ من ولديه صيرفية ).
وقال ابن رشيد فى البيان : ( سئل مالك عن رجل توفى وأوصى إلى رجل وترك من الورثة ابنا صغيرا وثلاث بنات , وأمه وزوجته , وترك مصحفا قيمته خمسة وعشرون دينارا , أترى أن ستخلصه الوصى للغلام ؟. فقال : إنى لست أدرى ما تركه الميت . فقيل له : أموال عظام من أصول وغيرها . فقال : ما سن الغلام ؟ . فقيل : ابن ست سنين . فقال : ما أرى بذلك بأسا أن يستخلصه للغلام .
وقد كان من أمر الناس أن يحبس لولد الميت هذا وما أشبهه : السيف والمصحف وما أشبههما , فلا أرى بأسا أن يستخلصه له . فقيل له : أيستخلصه للغلام والجوارى , فإنهن ربما علمن القراءة فى المصاحف ؟ . فقال : أحب إلى أن يستخلصه للغلام وحده , وهذا من خير ما يشترى له , له إن بلغ فاحتاج إلى ثمنه وجد به ثمنا , فأرى له أن يستخلصه له , ولاأرى بذلك بأسا ) .
قال محمد بن رشد : ( هذا بين على ما قاله , لأنه من النظر لليتيم الذى لا يخفى وجهه ).
قال صالح عفا الله عنه : لم يظهر لى وجه تخصيص الغلام بالمصحف دون البنات مع احتمال كونهن قارئات .
وحكى الونشريسى فى المعيار أن أبا عبد الله بن مرزوق قد أفتى بأنه لا يجبر الورثة على بيع ما ورثوا من كتب الفقه أو غيرها , ولم لم يكن لها فى الحال من يقرؤها . فظاهر فتوى ابن مرزوق هذه أن المصحف لا يورث , فكأنه يخالف إمامه فى ذلك .
والقول بتوريث المصحف هو مقتضى كلام أصحابنا الحنابلة ,... {97}
والشافعية فى اعتبارهم الإرث سببا تملك المصحف فى حق الكافر , وإن قالوا بوجوب إزالة ملكه عنه , فإذا قالوا بإرث الكافر للمصحف فالمسلم أولى . والله أعلم بالصواب ). {98}