جمهرة تفاسير السلف
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) }
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (يَقُولُ تعالى ذِكْرُهُ: إِنَّ الذينَ كَفَرُوا باللَّهِ وَرسولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ مِنَ اليهودِ وَالنصارَى وَالمشركِينَ جَمِيعِهِمْ {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}.
يَقُولُ: مَاكِثِينَ، لَابِثِينَ فيها (أَبَداً) لا يُخْرَجُونَ منها، وَلا يَمُوتُونَ فِيهَا.
{أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هؤلاءِ الذينَ كَفَرُوا مِنْ أهلِ الكتابِ وَالمشركينَ، هم شَرُّ مَنْ بَرَأَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ؛ وَالعربُ لا تَهْمِزُ البَرِيَّةَ، وَبِتَرْكِ الهمزِ فِيهَا قَرَأَتْهَا قرأةُ الأمصارِ غَيْرَ شَيْءٍ يُذْكَرُ عَنْ نافعِ بنِ أَبِي نُعَيْمٍ، فإِنَّهُ حَكَى بَعْضُهُمْ عنه أَنَّهُ كانَ يَهْمِزُهَا، وَذَهَبَ بها إِلى قولِ اللَّهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}.
وَأنَّها فَعِيلَةٌ مِنْ ذلكَ.
وَأمَّا الذينَ لَمْ يَهْمِزُوهَا، فإِنَّ لِتَرْكِهِمُ الهَمْزَ في ذلكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أنْ يَكُونُوا تَرَكُوا الهمزَ فيها، كما تَرَكُوهُ مِنَ المَلَكِ، وَهوَ مَفْعَلٌ مِنْ أَلَكَ أَوْ لَأَكَ، وَمِن يَرَى، وَتَرَى، وَنَرَى، وَهو يَفْعَلُ مِنْ رَأَيْتُ.
وَالآخَرُ: أنْ يَكُونُوا وَجَّهُوهَا إِلى أنَّها فَعِيلَةٌ مِنَ البَرَى وَهوَ الترابُ.
حُكِيَ عَنِ العربِ سَمَاعاً: بِفِيكَ البَرَى، يعني: بهِ التُّرَابُ). [جامع البيان: 24 / 555-556]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) }
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ): (حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، قال: حدّثنا سفيان، عن المختار بن فلفلٍ، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: قال رجلٌ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا خير البريّة، قال:«ذلك إبراهيم».
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ). [سنن الترمذي: 5 / 303]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (أخبرنا عليّ بن حجرٍ، أخبرنا عليّ بن مسهرٍ، عن المختار بن فلفلٍ، عن أنسٍ، قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: وأخبرنا زياد بن أيّوب، ومحمّد بن العلاء، والحسن بن إسماعيل، قالوا: حدّثنا ابن إدريس، قال: سمعت المختار بن فلفلٍ يذكر، قال: سمعت أنسًا، قال: قال رجلٌ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يا خير البرّيّة، قال: «ذاك إبراهيم»، وقال أبو كريبٍ والحسن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيادٌ: يذكر عن أنسٍ). [السنن الكبرى للنسائي: 10/ 342]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الذينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرسولِهِ مُحَمَّدٍ، وَعَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدينَ حُنَفَاءَ، وَأَقَامُوا الصلاةَ، وَآتُوا الزكاةَ، وَأَطَاعُوا اللَّهَ فيما أَمَر وَنَهَى، {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ ذلكَ مِنَ الناسِ فهم خَيْرُ البريَّةِ.
وقدْ حَدَّثَنَا ابنُ حميدٍ، قَالَ: ثنا عيسى بنُ فَرْقَدٍ، عَنْ أبي الجَارُودِ، عَنْ محمدِ بْنِ عَلِيٍّ {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ يَا عَلِيُّ وَشِيعَتُكَ») ). [جامع البيان: 24 / 556]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أَخْرَجَ ابنُ أبي حاتِمٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قالَ: أَتَعْجَبُونَ مِن مَنْزِلَةِ الملائكةِ مِن اللهِ؟ والذي نَفْسِي بيدِه، لَمَنْزِلَةُ العبدِ المؤمنِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ أعظمُ من منزلةِ مَلَكٍ، واقْرؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ). [الدر المنثور: 15 / 576-577]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأَخْرَجَ ابنُ مَرْدُويَهْ عن عائشةَ قالتْ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، مَنْ أَكْرَمُ الخَلْقِ على اللهِ؟ قالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَمَا تَقْرَئِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟» ). [الدر المنثور: 15 / 577]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأَخْرَجَ ابنُ عَسَاكِرَ، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، قالَ: كُنَّا عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَقْبَلَ عليٌّ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ هَذَا وَشِيعَتَهُ لَهُمُ الفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ونَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
فكانَ أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَقْبَلَ عليٌّ قالوا: جاءَ خَيْرُ البريَّةِ). [الدر المنثور: 15 / 577]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأَخْرَجَ ابنُ عَدِيٍّ، وابنُ عساكرَ، عن أبي سعيدٍ مَرْفوعاً: ((عليٌّ خيرُ البريَّةِ)) ). [الدر المنثور: 15 / 577]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأَخْرَجَ ابن مَرْدُويَهْ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}. قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلِيٍّ: «هُوَ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ» ). [الدر المنثور: 15 / 577]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأَخْرَجَ ابنُ مَرْدُويَهْ، عن عليٍّ قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ، وَمَوْعِدِي ومَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ، إِذَا جَثَتِ الأُمَمَ لِلْحِسَابِ، تُدْعَوْنَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ» ). [الدر المنثور: 15 / 578]
تفسير قوله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) }
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثوابُ هؤلاءِ الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القيامةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
يَعْنِي بَسَاتِينَ إِقامةٍ لا ظَعْنَ فيها، تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الأنهارُ، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.
يَقُولُ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَداً، لا يَخْرُجُونَ عنها، وَلا يَمُوتُونَ فيها، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}.
بِمَا أَطَاعُوهُ في الدنيا، وَعَمِلُوا لخلاصِهِم مِنْ عقابِهِ في ذلكَ، {وَرَضُوا عَنْهُ} لمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الثوابِ يومئذٍ على طَاعَتِهِمْ رَبَّهُم في الدنيا، وَجَزَاهُم عليها مِنَ الكرامةِ.
وقولُهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هذا الخيرُ الذي وَصَفْتُهُ وَوَعَدْتُهُ الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ يَوْمَ القيامةِ، لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ؛ يَقُولُ: لِمَنْ خَافَ اللَّهَ فِي الدنيا في سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، فَاتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ). [جامع البيان: 24 / 556-557]