تفسير قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنّك لرسول اللّه} [المنافقون: 1] إلى {لكاذبون} [المنافقون: 1]
- حدّثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: كنت في غزاةٍ فسمعت عبد اللّه بن أبيٍّ، يقول: لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد اللّه بن أبيٍّ وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذّبني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وصدّقه، فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قطّ، فجلست في البيت، فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ومقتك؟ فأنزل اللّه تعالى: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] فبعث إليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقرأ فقال: «إنّ اللّه قد صدّقك يا زيد»). [صحيح البخاري: 6/152]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (باب قوله إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه الآية)
وساق غير أبي ذرٍّ الآية إلى قوله لكاذبون). [فتح الباري: 8/644]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله عن أبي إسحاق هو السّبيعيّ ولإسرائيل فيه إسنادٌ آخر أخرجه التّرمذيّ والحاكم من طريقه عن السّدّيّ عن أبي سعدٍ الأزديّ عن زيد بن أرقم قوله عن زيد بن أرقم سيأتي بعد بابين من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تصريحه بسماعه له من زيدٍ قوله كنت في غزاةٍ زاد بعد بابٍ من وجهٍ آخر عن إسرائيل مع عمّي وهذه الغزاة وقع في رواية محمّد بن كعبٍ عن زيد بن أرقم عند النّسائيّ أنّها غزوة تبوك ويؤيّده قوله في رواية زهيرٍ المذكورة في سفرٍ أصاب النّاس فيه شدّةٌ وأخرج عبد بن حميدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيد بن جبيرٍ مرسلًا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا نزل منزلًا لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه فلمّا كان غزوة تبوك نزل منزلًا فقال عبد اللّه بن أبيٍّ فذكر القصّة والّذي عليه أهل المغازي أنّها غزوة بني المصطلق وسيأتي قريبًا في حديث جابرٍ ما يؤيّده وعند بن عائذٍ وأخرجه الحاكم في الإكليل من طريقه ثمّ من طريق أبي الأسود عن عروة أنّ القول الآتي ذكره صدر من عبد اللّه بن أبيٍّ بعد أن قفلوا قوله فسمعت عبد الله بن أبي هو بن سلولٍ رأس النّفاق وقد تقدّم خبره في تفسير براءةٌ قوله يقول لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا من حوله هو كلام عبد اللّه بن أبيٍّ ولم يقصد الرّاوي بسياقه التّلاوة وغلط بعض الشّرّاح فقال هذا وقع في قراءة بن مسعودٍ وليس في المصاحف المتّفق عليها فيكون على سبيل البيان من بن مسعودٍ قلت ولا يلزم من كون عبد اللّه بن أبيٍّ قالها قبل أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه قوله ولئن رجعنا كذا للأكثر وللكشميهنيّ ولو رجعنا والأوّل أولى وبعد الواو محذوفٌ تقديره سمعته يقول ووقع في الباب الّذي بعده وقال لئن رجعنا وهو يؤيّد ما قلته وفي رواية محمّد بن كعبٍ عن زيدٍ بعد باب وقال أيضًا لئن رجعنا وسيأتي في حديث جابرٍ سبب قول عبد اللّه بن أبيٍّ ذلك قوله فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر كذا بالشّكّ وفي سائر الرّوايات الآتية لعمّي بلا شكٍّ وكذا عند التّرمذيّ من طريق أبي سعدٍ الأزديّ عن زيدٍ ووقع عند الطّبرانيّ وبن مردويه أنّ المراد بعمّه سعد بن عبادة وليس عمّه حقيقةً وإنّما هو سيّد قومه الخزرج وعمّ زيد بن أرقم الحقيقيّ ثابت بن قيسٍ له صحبةٌ وعمّه زوج أمّه عبد اللّه بن رواحة خزرجيٌّ أيضًا ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة أنّ مثل ذلك وقع لأوس بن أرقم فذكره لعمر بن الخطّاب سبب الشّكّ في ذكر عمر وجزم الحاكم في الإكليل أنّ هذه الرّواية وهمٌ والصّواب زيد بن أرقم قلت ولا يمتنع تعدّد المخبر بذلك عن عبد اللّه بن أبيٍّ إلّا أنّ القصّة مشهورةٌ لزيد بن أرقم وسيأتي من حديث أنسٍ قريبًا ما يشهد لذلك قوله فذكره للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أي ذكره عمّي وكذا في الرّواية الّتي بعد هذه ووقع في رواية بن أبي ليلى عن زيدٍ فأخبرت به النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وكذا في مرسل قتادة فكأنّه أطلق الإخبار مجازًا لكن في مرسل الحسن عن عبد الرّزّاق فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلّك أخطأ سمعك لعلّك شبّه عليك فعلى هذا لعلّه راسل بذلك أوّلًا على لسان عمّه ثمّ حضر هو فأخبر قوله فحلفوا ما قالوا في رواية زهيرٍ فأجهد يمينه والمراد به عبد اللّه بن أبيٍّ وجمع باعتبار من معه ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة فبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عبد اللّه بن أبيٍّ فسأله فحلف باللّه ما قال من ذلك شيئًا قوله فكذّبني بالتّشديد في رواية زهيرٍ فقالوا كذب زيدٌ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا بالتّخفيف ورسول اللّه بالنّصب على المفعوليّة وقد تقدّم تحقيقه في الكلام على حديث أبي سفيان في قصّة هرقل وفي رواية بن أبي ليلى عن زيدٍ عند النّسائيّ فجعل النّاس يقولون أتى زيدٌ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالكذب قوله وصدّقه وفي الرّواية الّتي بعدها فصدّقهم وقد مضى توجيهها قوله فأصابني همٌّ في رواية زهيرٍ فوقع في نفسي شدّةٌ وفي رواية أبي سعدٍ الأزديّ عن زيدٍ فوقع عليّ من الهمّ ما لم يقع على أحدٍ وفي رواية محمّد بن كعبٍ فرجعت إلى المنزل فنمت زاد التّرمذيّ في روايته فنمت كئيبًا حزينًا وفي رواية بن أبي ليلى حتّى جلست في البيت مخافة إذا رآني النّاس أن يقولوا كذبت قوله فقال لي عمّي ما أردت إلى أن كذّبك كذا للأكثر وذكر أبو عليٍّ الجيّانيّ أنّه وقع في رواية الأصيليّ عن الجرجانيّ فقال لي عمر قال الجيّانيّ والصّواب عمّي كما عند الجماعة انتهى وقد ذكرت قبل ذلك ما يقتضي احتمال ذلك قوله ومقتك في روايةٍ لمحمّد بن كعبٍ فلامني الأنصار وعند النّسائيّ من طريقه ولامني قومي قوله فأنزل اللّه في رواية محمّد بن كعبٍ فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي بالوحي وفي رواية زهيرٍ حتّى أنزل اللّه وفي رواية أبي الأسود عن عروة فبينما هم يسيرون أبصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوحى إليه فنزلت وفي رواية أبي سعدٍ قال فبينما أنا أسير مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد خفقت برأسي من الهمّ أتاني فعرك بإذني وضحك في وجهي فلحقني أبو بكرٍ فسألني فقلت له فقال أبشر ثمّ لحقني عمر مثل ذلك فلمّا أصبحنا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سورة المنافقين قوله إذا جاءك المنافقون زاد آدم إلى قوله هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه إلى قوله ليخرجن الأعز منها الأذل وهو يبيّن أنّ رواية محمّد بن كعبٍ مختصرةٌ حيث اقتصر فيها على قوله ونزل هم الّذين يقولون لا تنفقوا الآية لكن وقع عند النّسائيّ من طريقه فنزلت هم الّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضوا حتّى بلغ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل قوله إنّ اللّه قد صدّقك يا زيد وفي مرسل الحسن فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأذن الغلام فقال وفت أذنك يا غلام مرّتين زاد زهيرٌ في روايته فدعاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليستغفر لهم وسيأتي شرحه بعد ثلاثة أبوابٍ وفي الحديث من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلّا ينفر أتباعهم والاقتصار على معاتباتهم وقبول أعذارهم وتصديق أيمانهم وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك لما في ذلك من التّأنيس والتّأليف وفيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه ولا يعدّ نميمةً مذمومةً إلّا إن قصد بذلك الإفساد المطلق وأمّا إذا كانت فيه مصلحةٌ ترجّح على المفسدة فلا). [فتح الباري: 8/644-646]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ قوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنّك لرسول الله} إلى {لكاذبون} (المنافقون: 1)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنّك لرسول الله} الآية. هذا المقدار في رواية أبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {الكاذبون}). [عمدة القاري: 19/236]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (حدّثنا عبد الله بن رجاءٍ حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيدٍ بن أرقم قال كنت في غزاةٍ فسمعت عبد الله بن أبيٍّ يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينقضّوا من حوله ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ فذكرت ذالك لعمّي أو لعمر فذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيٍّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قطّ فجلست في البيت فقال لي عمّي ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} فبعث إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال إنّ الله قد صدّقك يا زيد..
مطابقته للتّرجمة ظاهرة. لأنّه يبين سبب نزولها. وإسرائيل هو ابن يونس يروي عن جده أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.
والحديث أخرجه البخاريّ أيضا عن آدم وعبيد الله بن موسى فهم ثلاثتهم عن إسرائيل وعن عمرو بن خالد وأخرجه مسلم في التّوبة عن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه التّرمذيّ في التّفسير عن عبد بن حميد وأخرجه النّسائيّ فيه عن أبي داود الحراني.
قوله: (في غزاة) ، هي غزوة تبوك على ما وقع في رواية النّسائيّ، والّذي عليه أهل المغازي أنّها غزوة بني المصطلق، وذكر أبو الفرج أنّها المريسيع سنة خمس، وقيل: ستّ وقال موسى: سنة أربع. قوله: (عبد الله بن أبي) ، ابن سلول رأس المنافقين والابن الثّاني صفة لعبد الله فهو بالنّصب وسلول غير منصرف لأنّه اسم أم عبد الله فهو منسوب إلى الأبوين. قوله: (يقول لا تنفقوا) ، إلى قوله: (الأذل) هو كلام عبد الله بن أبي ولم يقصد الرّاوي به التّلاوة، وقال بعضهم: وغلط بعض الشّرّاح فقال. هذا واقع في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. قلت: أراد به صاحب (التّلويح) ولكنه لم يقل هكذا وإنّما قال. قوله: حتّى ينفضوا من حوله، بكسر الميم وجر اللّام، وكذا هو في السّبعة. قال النّوويّ: وقرىء في الشاذ من حوله، بالفتح هذا الّذي ذكره صاحب (التّلويح) نعم قوله: كذا هو في السّبعة، فيه نظر. قوله: (ولئن رجعنا) ، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني، ولو رجعنا. قوله: (لعمّي أو لعمر) ، كذا بالشّكّ، وفي سائر الرّوايات الّتي تأتي: لعمى، بلا شكّ وكذا عند التّرمذيّ من طريق أبي سعيد الأزديّ عن زيد، ووقع عند الطّبرانيّ وابن مردويه: أن المراد بعمّه سعد بن عبادة وليس عمه حقيقة، وإنّما هو سيد قومه الخزرج، وعم زيد بن أرقم الحقيقيّ ثابت بن قيس له صحبة وعمه زوج أمه عبد الله بن رواحة خزرجي أيضا وفي كلام الكرماني أنه عبد الله بن رواحة وهو عمه المجازي لأنّه كان في حجره وأنهما من أولاد كعب الخزرجي، وقال الغساني: الصّواب عمي لا عمر، على ما رواه الجماعة. قوله: فذكره للنّبي صلى الله عليه وسلم أي: فذكره عمي ووقع في رواية ابن أبي ليلى عن زيد، فأخبرت به النّبي صلى الله عليه وسلم، وكذا وقع في مرسل قتادة، والتوفيق بينهما أنه يحمل على أنه أرسل أولا ثمّ أخبر به بنفسه. قوله: (فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالتّشديد. قوله: (وصدقه) أي: وصدق عبد الله بن أبي. قوله: (فأصابني هم لم يصبني مثله قطّ) يعني: في الزّمن الماضي، ووقع في رواية زهير: فوقع في نفسه شدّة، ووقع في رواية أبي سعد الأزديّ عن زيد. فوقع على من الهم ما لم يقع على أحد، وفي رواية محمّد بن كعب فرجعت إلى المنزل فنمت، زاد التّرمذيّ رواية: فنمت كئيبا حزينًا. وفي رواية ابن أبي ليلى: حتّى جلست في البيت مخافة إذ رآني النّاس أن يقولوا: كذبت. قوله: (ما أردت إلى أن كذبك) بالتّشديد، أي: ما قصدت منتهيا إليه. أي: ما حملك عليه قوله: (ومقاك) من مقته مقتا إذا أبغضه بغضا. وفي رواية محمّد بن كعب: فلامني الأنصار، وعند النّسائيّ من طريقه ولامني قومي. قوله: (فأنزل الله) وفي رواية محمّد ابن كعب، فإنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: الوحي، وفي رواية زهير: حتّى أنزل الله تعالى، وفي رواية أبي الأسود عن عروة فبينما هم يسيرون أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فنزلت، وفي رواية أبي سعد عن زيد قال: فبينما إنّا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم أتاني فعرك أذني فضحك في وجهي فلحقني أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، فسألني فقلت له: أبشر ثمّ لحقني عمر رضي اللهغنه ذلك. فلمّا أصبحنا قرأ رسول صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين، قوله: {إذا جاءك المنافقون} زاد آدم بن أبي إياس إلى قوله: هم الّذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قوله: ليخرجن الأعز منها الأذل). [عمدة القاري: 19/236-237]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه} إلى {لكاذبون}
سقط لغير أبي ذر
(قوله: ({إذا}) ولأبي ذر: بسم الله الرحمن الرحيم باب أي في قوله تعالى: إذا ({جاءك المنافقون}) جواب الشرط ({قالوا نشهد إنك لرسول الله}) إلى ({لكاذبون}) [المنافقون: 1] وسقط إلى {لكاذبون} لأبي ذر، وقال بعد قوله: {لرسول الله} الآية. وقيل: الجواب محذوف، وقيل حال أي إذا جاؤوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم وقوله: {والله يعلم إنك لرسوله} جملة معترضة بين قوله: {نشهد إنك لرسول الله} وقوله: {والله يشهد} لفائدة أبداها الزمخشري في كشافه وهي أنه لو قال قالوا نشهد إنك لرسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- والله يشهد أنهم لكاذبون لكان يوهم أن قولهم هذا كذب فوسط بينهما قوله: {والله يعلم إنك لرسوله} ليميط هذا الإيهام.
قال الطيبي: وهذا نوع من التتميم لطيف المسلك، وقال في المصابيح: واستدلّ بقوله تعالى: {والله يشهد أن المنافقين لكاذبون} على أن الكذب هو عدم مطابقة الخبر لاعتقاد المخبر ولو كان خطأ فإنه تعالى جعلهم كاذبين في قولهم: إنك لرسول الله لعدم مطابقته لاعتقادهم، وإن كان مطابقًا للواقع وردّ هذا الاستدلال بأن المعنى لكاذبون في الشهادة وفي ادّعائهم المواطأة، فالتكذيب راجع إلى الشهادة باعتبار تضمنها خبرًا كاذبًا غير مطابق للواقع وهو أن هذه الشهادة من صميم القلب وخلوص الاعتقاد بشهادة أن والجملة الاسمية؛ وبأن المعنى أنهم لكاذبون في تسمية هذا الخبر شهادة لأن الشهادة ما تكون على وفق الاعتقاد والمعنى أنهم لكاذبون في قولهم إنك لرسول الله، لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع فيكون كذبًا باعتبار اعتقادهم وإن كان صدقًا في نفس الأمر فكأنه قيل إنهم يزعمون أنهم لكاذبون في هذا الخبر الصادق وحينئذ لا يكون الكذب إلا بمعنى عدم المطابقة للواقع اهـ). [إرشاد الساري: 7/384]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (حدّثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن أرقم، قال: كنت في غزاةٍ فسمعت عبد اللّه بن أبيٍّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا من حوله، ولو رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- إلى عبد اللّه بن أبيٍّ وأصحابه، فحلفوا ما قالوا فكذّبني رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- وصدّقه فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قطّ فجلست في البيت، فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- ومقتك فأنزل اللّه تعالى: {إذا جاءك المنافقون} فبعث إليّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقرأ فقال: «إنّ اللّه قد صدّقك يا زيد». [الحديث 4900 - أطرافه في: 4901، 4902، 4903، 4904].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن رجاء) الغداني بضم الغين المعجمة والدال المهملة المخففة قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن زيد بن أرقم) أنه (قال: كنت في غزاة) هي غزوة تبوك كما عند النسائي وعند أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلق ورجحه ابن كثير بأن عبد الله بن أبي لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك بل رجع بطائفة من الجيش لكن أيد في الفتح القول بأنها غزوة تبوك بقوله في رواية زهير الآتية إن شاء الله تعالى في سفر أصاب الناس فيه شدة (فسمعت عبد الله بن أبيّ) هو ابن سلول رأس النفاق (يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله) من المهاجرين (حتى ينفضوا) يتفرقوا (من حوله) وسمعته يقول (ولو) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ولئن (رجعنا من عنده) ولأبي ذر إلى المدينة من عنده (ليخرجن الأعز) يريد نفسه (منها الأذل) يريد الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قال زيد بن أرقم: (فذكرت ذلك) الذي قاله عبد الله بن أبي (لعمي) هو سعد بن عبادة كما عند الطبراني وابن مردويه وليس هو عمه حقيقة وإنما هو سيد قومه الخزرج (أو لعمر) بن الخطاب بالشك، وعند الترمذي كسائر الروايات الآتية عمي بدون شك (فذكره النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- فدعاني) عليه الصلاة والسلام (فحدّثته) بذلك (فأرسل رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- إلى عبد الله بن أبي وأصحابه) فسألهم عن ذلك (فحلفوا ما قالوا) ذلك (فكذبني رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-) بتشديد الذال المعجمة (وصدقه) بتشديد المهملة أي صدق عبد الله بن أبي (فأصابني همّ لم يصبني مثله قط) في الزمن الماضي (فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-) بتشديد المعجمة في الفرع وقف تنكز ما أردت إلا بتشديد اللام وفي فرع غيره كثير إلى الجارة وهو الذي في اليونينية (ومقتك) وعند النسائي: ولامني قومي (فأنزل الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون}) وعند النسائي فنزلت: {الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} حتى بلغ: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 7، 8] (فبعث إليّ النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقرأ) ما أنزل الله عليه من ذلك (فقال: إن الله قد صدقك يا زيد).
وهذا الحديث أخرجه مسلم في التوبة والترمذي في التفسير وكذا النسائي). [إرشاد الساري: 7/384-385]
- قال محمدُ بنُ عبدِ الهادي السِّنْديُّ (ت: 1136هـ) : (قوله: (فكذبني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصدقه الخ) فإن قلت: كيف يكذب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المؤمن، ويصدق المنافق في مثل هذا مع أن المنافقين دأبهم الكذب في مثله، والمؤمنون من الصحابة ما كان دأبهم الكذب بل دأبهم الصدق سيما في حضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
فالجواب يحتمل أنه ما علم حالهم قبل، وإنما أطلعه الله تعالى على حالهم أولاً بهذه السورة، وهذا ظاهر قوله تعالى. قالوا: نشهد إنك لرسول الله الخ. وقوله: وأن يقولوا تسمع لقولهم، وقوله تعالى: {هم العدوّ فاحذرهم}، والله تعالى أعلم. ويحتمل أنه صدقهم، وكذب هذا ظاهراً بمعنى أنه رد خبره لوحدته، وترك عقوبتهم، فصار كأنه صدقهم، وكذبه والله تعالى أعلم.
وقوله: ما أردت إلى أن كذبك فمعناه أيّ شيء أردت بما خضت فيه إلى أن كذبك فإلى الجارة متعلقة بمحذوف، وهو خضت غاية له، والله تعالى أعلم اهـ سندي). [حاشية السندي على البخاري: 3/74]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا ابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن زيد بن أرقم، قال: " لمّا قال عبد الله بن أبيٍّ ما قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فحلف أنّه لم يقل، فجعل النّاس يقولون: تأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكذب؟، حتّى جلست في البيت مخافة إذا رآني النّاس أن يقولوا: كذبت، حتّى أنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول الله} [المنافقون: 1] الآية
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا يحيى بن آدم، قال: حدّثنا مالك بن مغولٍ، عن واصلٍ الأحدب، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة، قال: قيل له: المنافقون اليوم أكثر أم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، قال: «بل هم اليوم أكثر؛ لأنّه كان يومئذٍ يستسرّونه واليوم يستعلنونه»
- أخبرنا محمّد بن يحيى بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الأعمش، حدّثني إبراهيم، عن الأسود، قال: كنّا جلوسًا في حلقةٍ فيها عبد الله، فجاء حذيفة حتّى قام علينا، فسلّم ثمّ قال: «لقد أنزل الله النّفاق على قومٍ، كانوا خيرًا منكم»، قال الأسود: سبحان الله، إنّ الله عزّ وجلّ، يقول: {إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار} [النساء: 145]، فتبسّم عبد الله، وانطلق حذيفة، حتّى جلس في ناحية المسجد، وقام عبد الله وتفرّق أصحابه، قال: فرماني بالحصا فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه، وقد عرف ما قلت، أجل قد أنزل الله عزّ وجلّ النّفاق على قومٍ خيرٍ منكم، ثمّ تابوا فتاب الله عليهم "). [السنن الكبرى للنسائي: 10/301-302]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إذا جاءك المنافقون}. يا محمّد قالوا بألسنتهم {نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله} قال المنافقون ذلك أو لم يقولوا {واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}. يقول: واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون في إخبارهم عن أنفسهم أنّها تشهد إنّك لرسول اللّه، وذلك أنّها لا تعتقد ذلك ولا تؤمن به، فهم كاذبون في خبرهم عنها بذلك.
وكان بعض أهل العربيّة يقول في قوله: {واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون} إنّما كذب ضميرهم لأنّهم أضمروا النّفاق، فكما لم يقبل إيمانهم، وقد أظهروه، فكذلك جعلهم كاذبين، لأنّهم أضمروا غير ما أظهروا). [جامع البيان: 22/650]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 1 – 4
أخرج ابن سعد وأحمد، وعبد بن حميد والبخاري والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم وهو قوله: {خشب مسندة} قال: كانوا رجالا أجمل شيء). [الدر المنثور: 14/490-491] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان). [الدر المنثور: 14/494]
تفسير قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب {اتّخذوا أيمانهم جنّةً} [المنافقون: 2] : يجتنّون بها). [صحيح البخاري: 6/152]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله اتّخذوا أيمانهم جنّة)
يجتنّون بها قال عبد بن حميدٍ حدّثني شبابة عن ورقاء عن بن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قوله اتّخذوا أيمانهم جنّة قال يجتنّون أنفسهم وأخرجه الطّبريّ من وجهٍ آخر عن بن أبي نجيح باللّفظ الّذي ذكره المصنّف ثمّ ساق حديث زيد بن أرقم وقد تقدّم شرحه في الّذي قبله مستوفي). [فتح الباري: 8/646]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ: {اتّخذوا أيمانهم جنّةً يجتنّون بها} (المنافقون: 2)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {اتّخذوا أيمانهم} أي: اتّخذوا المنافقون أيمانهم {جنّة يجتنون بها} يعني: يستترون بها). [عمدة القاري: 19/238]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {اتّخذوا أيمانهم جنّةً} يجتنّون بها
هذا (باب) بالتنوين أي في قوله عز وجل: ({اتخذوا أيمانهم}) حلفهم الكاذب ({جنة}) [المنافقون: 2] يستترون (بها) عن أموالهم ودمائهم وسقط لفظ باب لغير أبي ذر). [إرشاد الساري: 7/385]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {اتّخذوا أيمانهم جنّةً فصدّوا عن سبيل اللّه إنّهم ساء ما كانوا يعملون}.
يقول تعالى ذكره: اتّخذ المنافقون أيمانهم جنّةً، وهي حلفهم.
- كما: حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {اتّخذوا أيمانهم جنّةً}. أي حلفهم جنّةً.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {اتّخذوا أيمانهم جنّةً}. قال: يجيئون بها، قال ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا.
- حدّثت، عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: حدّثنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {اتّخذوا أيمانهم جنّةً} يقول: حلفهم باللّه إنّهم لمنكم جنّةً.
وقوله: {جنّةً} سترةً يستترون بها كما يستتر المستجنّ بجنّته في حربٍ وقتالٍ، فيمنعون بها أنفسهم وذراريّهم وأموالهم، ويدفعون بها عنها.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {جنّةً} ليعصموا بها دماءهم وأموالهم.
وقوله: {فصدّوا عن سبيل اللّه}. يقول: فأعرضوا عن دين اللّه الّذي بعث به نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشريعته الّتي شرعها لخلقه. {إنّهم ساء ما كانوا يعملون}. يقول: إنّ هؤلاء المنافقين الّذين اتّخذوا أيمانهم جنّةً ساء ما كانوا يعملون في الدّنيا في اتّخاذهم أيمانهم جنّةً، لكذبهم ونفاقهم، وغير ذلك من أمورهم). [جامع البيان: 22/650-651]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال ثنا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد اتخذوا أيمانهم جنة يقول يجتنون بها أنفسهم). [تفسير مجاهد: 2/677]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (قال الحارث بن محمّد بن أبي أسامة: ثنا هوذة، ثنا عوفٌ قال: "بلغني في قوله - عزّ وجلّ-: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) حتى بلغ (قاتلهم الله أنى يؤفكون) قال: هو عبد اللّه بن أبيٍّ، وكان يقول للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في وجهه: أشهد أنّك رسول اللّه- وليس بموقنٍ- واتخذ أيمانه جنة دون دمه وكان أتم الناس من لدن قرنه إلى قدمه وأثبته لساناً، وهو الذي قال الله فيهم: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدو) يحسبون أنّ محمّدًا وأصحابه سيهلكون بها، لا يوقنون أنّ اللّه مظهره وأصحابه على الدّين كلّه، وأنه ممكن له في الأرض"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/287]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم أجنوا بأيمانهم من القتل والحرب). [الدر المنثور: 14/494]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} قال: اتخذوا حلفهم جنة ليعصموا بها دماءهم وأموالهم). [الدر المنثور: 14/495]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر كان مع كل رجل من أغنياء المؤمنين رجل من الفقراء يحمل له زاده وماءه فكانوا إذا دنوا من الماء تقدم الفقراء فاستقوا لأصحابهم فسبقهم أصحاب عبد الله بن أبي فأبوا أن يخلوا عن المؤمنين فحصرهم المؤمنون فلما جاء عبد الله بن أبي نظر إلى أصحابه فقال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وقال: امسكوا عنهم البيع لا تبايعوهم فسمع زيد بن أرقم قول ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة وقوله: لا تنفقوا على من عند رسول الله فأخبر عمه فأخبر عمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابن أبي وأصحابه فعجب من صورته وجماله وهو يمشي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذلك قوله: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة} فعرفه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أخبره حلف ما قاله فذلك قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة} {قالوا نشهد إنك لرسول الله} وذلك قوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} وكل شيء أنزله في المنافقين فإنما أراد عبد الله ابن أبي). [الدر المنثور: 14/495-496]
تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] ). [صحيح البخاري: 6/152]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا)
ساق إلى قوله لا يفقهون). [فتح الباري: 8/647]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} (المنافقون: 3)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {ذلك بأنّهم} الآية. قوله: (ذلك) أشار ما وصف من حال المنافقين في النّفاق والكذب بالإيمان، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشّهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثمّ كفروا ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك، فطبع على قلوبهم حتّى لا يدخلهم الإيمان جزاء على نفاقهم فهم لا يفقهون صحة الإيمان وإعجاز القرآن كما يفهمه المؤمنون). [عمدة القاري: 19/238]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}
(باب قوله): عز وجل: ({ذلك}) أي سوء عملهم ({بأنهم آمنوا}) بسبب أنهم آمنوا
ظاهرًا ({ثم كفروا}) سرًّا ({فطبع}) ختم ({على قلوبهم}) بالكفر ({فهم لا يفقهون}) [المنافقون: 3] حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته وسقط باب قوله لغير أبي ذر). [إرشاد الساري: 7/386]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.
يقول تعالى ذكره: إنّماساء ما كانوا يعملون هؤلاء المنافقون الّذين اتّخذوا أيمانهم جنّةً من أجل أنّهم صدّقوا اللّه ورسوله، ثمّ كفروا بشكّهم في ذلك وتكذيبهم به.
وقوله: {فطبع على قلوبهم}. يقول: فجعل اللّه على قلوبهم ختمًا بالكفر عن الإيمان؛ وقد بيّنّا في موضعٍ غير هذا صفة الطّبع على القلب بشواهدها، وأقوال أهل العلم، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: {فهم لا يفقهون}. يقول تعالى ذكره: فهم لا يفقهون صوابًا من خطأٍ، وحقًّا من باطلٍ لطبع اللّه على قلوبهم.
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}. أقرّوا بلا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّدًا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقلوبهم منكرةٌ تأبى ذلك). [جامع البيان: 22/652]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} قال: اقروا بلا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وقلوبهم تأبى ذلك). [الدر المنثور: 14/496]
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون) ). [صحيح البخاري: 6/153]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره الآية إلى يؤفكون). [فتح الباري: 8/647]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} (المنافقون: 4)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {وإذا رأيتهم} الآية ... وهي قوله يأفكون. ساقها الأكثرون. وفي رواية أبي ذر: {وإذا رأيتهم} إلى قوله: تسمع لقولهم) الآية قوله
{إذا رأيتهم} أي: المنافقين: تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورها وطول قامتها، وعن ابن عبّاس: كان عبد الله بن أبي رجلا جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللّسان، وقوم من المنافقين في صفته وهم رؤساء المدينة كانوا يحضرون مجلس النّبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن وكان النّبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بها كلهم، فإذا قالوا سمع النّبي صلى الله عليه وسلم لقولهم: قال الله تعالى: {وإن يقولوا نسمع لقولهم كأنّهم خشب مسندة} أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام شبهوا في استنادهم وما هم إلّا أجر أم خالية عن الإيمان، والخير بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغًا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع. وقيل: يجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحونة من الخشب المسندة إلى الحيطان، شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم. قوله: (يحسبون) ، أي: من خبثهم وسوء ظنهم، وقلة يقينهم كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم، قال مقاتل: إن نادى منادي في العسكر أو انفلتت دابّة أو نشدت ضالّة ظنّوا أنهم يرادون لما في قلوبهم من الرعب. قوله: (هم العدو) ، مبتدأ وخبر أي: الكاملون في العداوة. قوله: (فاحذرهم) ، أي: فلا تأمنهم ولا تغتر بظاهرهم. قوله: (قاتلهم الله) دعا عليهم باللعن والخزي. قوله: (أنى يؤفكون) أي: كيف يصرفون عن الحق، تعجبا من جهلهم وضلالهم). [عمدة القاري: 19/239]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون}
(باب) قوله عز وجل: ({وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم}) لحسن منظرهم كما يأتي ({وإن يقولوا تسمع لقولهم}) لفصاحتهم ({كأنهم خشب مسنّدة}) جملة مستأنفة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره كأنهم أو في محل نصب على الحال من الضمير في قولهم أي تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحًا خالية عن العلم والنظر ({يحسبون كل صيحة}) تصاح واقعة ({عليهم}) لما في قلوبهم من الرعب وعليهم هو المفعول الثاني للحسبان
وقوله: ({هم العدوّ}) جملة مستأنفة أخبر الله عنهم بذلك ({فاحذرهم}) فلا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك ينقلون إليهم أسرارك ({فاتلهم الله}) أهلكهم ({أنّى يؤفكون}) [المنافقون: 4] أي كيف يصرفون عن الإيمان بعد قيام البرهان وسقط لأبي ذر قوله: كأنهم الخ وقال الآية بعد قوله لقولهم وسقط لغيره لفظ باب). [إرشاد الساري: 7/387]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (وقوله: {خشبٌ مسنّدةٌ} [المنافقون: 4] قال: كانوا رجالًا أجمل شيءٍ). [صحيح البخاري: 6/153]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وقوله خشبٌ مسنّدةٌ قال كانوا رجالًا أجمل شيءٍ هذا تفسيرٌ لقوله تعجبك أجسامهم وخشبٌ مسنّدةٌ تمثيلٌ لأجسامهم ووقع هذا في نفس الحديث وليس مدرجًا فقد أخرجه أبو نعيمٍ من وجهٍ آخر عن عمرو بن خالدٍ شيخ البخاريّ فيه بهذه الزّيادة وكذا أخرجه الإسماعيليّ من وجهٍ آخر عن زهيرٍ تنبيهٌ قرأ الجمهور خشبٌ بضمّتين وأبو عمرٍو والأعمش والكسائيّ بإسكان الشين). [فتح الباري: 8/647]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (قوله " خشب مسندة " تفسير لقوله تعجبك أجسامهم ووقع هذا في نفس الحديث وليس مدرجا وأخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد شيخ البخاريّ فيه بهذه الزّيادة وخشب بضمّتين في قراءة الجمهور وقرأ أبو عمرو والكسائيّ والأعمش بإسكان الشين قوله " قال كانوا رجالًا أجمل شيء " أي قال الله تعالى كأنّهم خشب مسندة مع أنهم كانوا رجالًا من أجمل النّاس وأحسنهم وقد ذكرنا وجه الشّبه فيه عن قريب). [عمدة القاري: 19/239]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقوله: ({خشب}) بإسكان الشين وضمها ({مسندة} قال: كانوا رجالًا أجمل شيء).
قال الحافظ ابن حجر: وهذا وقع في نفس الحديث وليس مدرجًا فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد شيخ المؤلّف فيه بهذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير). [إرشاد الساري: 7/387]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدوّ فاحذرهم قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون}.
يقول جلّ ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمّد تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورها {وإن يقولوا تسمع لقولهم}.
يقول جلّ ثناؤه: وإن يتكلّموا تسمع كلامهم يشبه منطقهم منطق النّاس. {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} يقول: كأنّ هؤلاء المنافقين خشبٌ مسنّدةٌ لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنّما هم صورٌ بلا أحلامٍ، وأشباحٌ بلا عقولٍ.
وقوله: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم}. يقول جلّ ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنّهم، وقلّة يقينهم كلّ صيحةٍ عليهم، لأنّهم على وجلٍ أن ينزل اللّه فيهم أمرًا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريّهم، وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلّما نزل بهم من اللّه وحيٌ على رسوله، ظنّوا أنّه نزل بهلاكهم وعطبهم. يقول اللّه جلّ ثناؤه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: هم العدوّ يا محمّد فاحذرهم، فإنّ ألسنتهم إذا لقوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عينٌ لأعدائكم عليكم.
وقوله: {قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون}. يقول: أخزاهم اللّه إلى أيّ وجهٍ يصرفون عن الحقّ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، وسمعته يقول في قول اللّه: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} الآية، قال: هؤلاء المنافقون.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} فقرأ ذلك عامّة قرأة المدينة والكوفة خلا الأعمش والكسائيّ: {خشبٌ} بضمّ الخاء والشّين، كأنّهم وجّهوا ذلك إلى جمع الجمع، جمعوا الخشبة خشابًا ثمّ جمعوا الخشاب خشبًا، كما جمعت الثّمرة ثمارًا، ثمّ ثمرًا، وقد يجوز أن يكون الخشب بضمّ الخاء والشّين إلى أنّها جمع خشبةٍ، فتضمّ الشّين منها مرّةً وتسكّن أخرى، كما جمعوا الأكمة أكمًا وأكمًا بضمّ الألف والكاف مرّةً، وتسكين الكاف منها مرّةً، وكما قيل: البدن والبدن، بضمّ الدّال وتسكينها لجمع البدنة، وقرأ ذلك الأعمش والكسائيّ: (خشبٌ) بضمّ الخاء وسكون الشّين.
وللصّواب من القول في ذلك أنّهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان، وبأيّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ وتسكين الأوسط فيما جاء من جمع فعلةٍ على فعلٍ في الأسماء على ألسن العرب أكثرو ذلك كجمعهم البدنة بدنًا، والأجمة أجمًا). [جامع البيان: 22/652-654]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (قال الحارث بن محمّد بن أبي أسامة: ثنا هوذة، ثنا عوفٌ قال: "بلغني في قوله - عزّ وجلّ-: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) حتى بلغ (قاتلهم الله أنى يؤفكون) قال: هو عبد اللّه بن أبيٍّ، وكان يقول للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في وجهه: أشهد أنّك رسول اللّه- وليس بموقنٍ- واتخذ أيمانه جنة دون دمه وكان أتم الناس من لدن قرنه إلى قدمه وأثبته لساناً، وهو الذي قال الله فيهم: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم هم العدو) يحسبون أنّ محمّدًا وأصحابه سيهلكون بها، لا يوقنون أنّ اللّه مظهره وأصحابه على الدّين كلّه، وأنه ممكن له في الأرض"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/287] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 1 – 4
أخرج ابن سعد وأحمد، وعبد بن حميد والبخاري والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم وهو قوله: {خشب مسندة} قال: كانوا رجالا أجمل شيء). [الدر المنثور: 14/490-491] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كأنهم خشب مسندة} قال: نخل قيام). [الدر المنثور: 14/496]