تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، ومن في موضع نصب عطفا على الضمير في: «ذرني» أو نصبا على المفعول معه، و «الحديث» المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: تسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه). [المحرر الوجيز: 8/ 380-381]
تفسير قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وأملي لهم معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: ملاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر). [المحرر الوجيز: 8/ 381]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: أم تسئلهم أجراً فهم من مغرمٍ مثقلون (46) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (47) فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظومٌ (48) لولا أن تداركه نعمةٌ من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذمومٌ (49) فاجتباه ربّه فجعله من الصّالحين (50) وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر ويقولون إنّه لمجنونٌ (51) وما هو إلاّ ذكرٌ للعالمين (52)
هذه أم التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك والإقبال على سواه، وهذا التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجرا فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وقرارهم). [المحرر الوجيز: 8/ 381]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: أم عندهم الغيب فهم يكتبون معناه: هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك أن الأمر على اختيارهم جار). [المحرر الوجيز: 8/ 381]
تفسير قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم، ثم اقتضبت القصة، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت وهو مكظومٌ، أي غيظه في صدره. وحقيقة الكظم: هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزا، وهو في الحقيقة كاظم، ونحو هذا قول ذي الرمة: [البسيط]
وأنت من حب مني مضمر حزنا = عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
وقال النقاش: المكظوم، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض). [المحرر الوجيز: 8/ 381-382]
تفسير قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ جمهور الناس: «لولا أن تداركه» أسند الفعل دون علامة تأنيث، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس: «تداركته» على إظهار العلامة، وقرأ ابن هرمز والحسن: «تدّاركه» بشد الدال على معنى: تتداركه وهي حكاية حال تام، فلذلك جاء الفعل مستقبلا بمعنى: لولا أن، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه، قوله تعالى: فوجد فيها رجلين يقتتلان فهذا وجه القراءة، ثم أدغمت التاء في الدال، والنعمة: هي الصفح والتوب، والاجتباء: الذي سبق له عنده، والعراء: الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه، ومنه قول الشاعر [أبو الخراش الهذلي]: [الكامل]
رفعت رجلا لا أخاف عثارها = ونبذت بالأرض العراء ثيابي
وقد نبذ يونس عليه السلام بالعراء ولكن غير مذموم). [المحرر الوجيز: 8/ 382]
تفسير قوله تعالى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و«فاجتباه» معناه: اختاره واصطفاه). [المحرر الوجيز: 8/ 382]
تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه. وقرأ جمهور القراء: «يزلقونك» بضم الياء من أزلق، وقرأ نافع وحده: «يزلقونك». بفتح الياء من زلقت الرجل، يقال: زلق الرجل بكسر اللام وزلقته بفتحها مثل: حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترنها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ليزهقونك» بالهاء، وروى النخعي أن في قراءة ابن مسعود:
«لينفدونك»، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر: [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس = نظرا يزيل مواطئ الأقدام
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى: يأخذونك بالعين، وذكر أن الدفع بالعين كان في بني
أسد، قال ابن الكلبي: كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فسأله الكفار أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابهم إلى ذلك، ولكن عصم الله تعالى نبيه، قال الزجاج: كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان شيئا، تجوع ثلاثة أيام، وقال الحسن: دواء من أصابه العين أن يقرأ هذه الآية، و «الذكر» في الآية القرآن). [المحرر الوجيز: 8/ 383]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم قرر تعالى أن هذا القرآن العزيز ذكرٌ للعالمين من الجن والإنس، ووعظ لهم وحجة عليهم، فالحمد لله الذي أنعم علينا به وجعلنا أهله وحماته لا رب غيره). [المحرر الوجيز: 8/ 383]