تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى: إنّ للمتّقين عند ربّهم جنّات النّعيم، فروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش: إن كانت ثم جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت: أفنجعل المسلمين كالمجرمين، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ). [المحرر الوجيز: 8/ 376]
تفسير قوله تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ما لكم توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: كيف تحكمون جملة منحازة كذلك، وكيف في موضع نصب ب تحكمون). [المحرر الوجيز: 8/ 376]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: أم هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: كتابٌ معناه: منزل من عند الله). [المحرر الوجيز: 8/ 376]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إنّ لكم فيه لما تخيّرون. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: إنّ معمولة ل تدرسون، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من إنّ لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: «أن» بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: «أن لكم» بفتح الألف. وقرأ الأعرج «أأن لكم فيه» على الاستفهام). [المحرر الوجيز: 8/ 376]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: أم لكم أيمانٌ علينا بالغةٌ إلى يوم القيامة إنّ لكم لما تحكمون (39) سلهم أيّهم بذلك زعيمٌ (40) أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين (41) يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السّجود فلا يستطيعون (42) خاشعةً أبصارهم ترهقهم ذلّةٌ وقد كانوا يدعون إلى السّجود وهم سالمون (43) فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إنّ كيدي متينٌ (45)
قوله تعالى: أم لكم أيمانٌ علينا بالغةٌ إلى يوم القيامة مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بالغة» بالنصب على الحال وهي حال من النكرة، لأنها نكرة مخصصة بقوله علينا، وقرأ الأعرج: «أإن لكم لما تحكمون» وكذلك في التي تقدمت في قوله: «أإن لكم فيه لما تخيرون»). [المحرر الوجيز: 8/ 376-377]
تفسير قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمر تعالى نبيه محمدا على وجه إقامة الحجة، أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟
والزعيم: الضامن للأمر والقائم به). [المحرر الوجيز: 8/ 377]
تفسير قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: «أم لهم شركاء فليأتوا بشركهم» بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: فليأتوا بشركائهم قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، يوم يكشف عن ساقٍ). [المحرر الوجيز: 8/ 377]
تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: يوم يكشف عن ساقٍ، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد»، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون:نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا، فلا يستطيعون سجودا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية أيضا من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [جد طرفة]: مجزوء الكامل]
كشفت لهم عن ساقها = وبدا عن الشر البواح
ومنه قول الراجز: [الرجز]
قد وشمرت عن ساقها فشدوا = ... ... ... ...
وقول الآخر: [الرجز]
في سنة قد كشفت عن ساقها = حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميرا وجدا، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: [الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه = صبور على الضراء طلاع أنجد
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه». وقرأ جمهور الناس: «يكشف عن ساق» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن مسعود: «يكشف» بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله، وقرأ ابن عباس: «تكشف» بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضا: «تكشف» بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ: «نكشف» بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن ابن مسعود. وقوله تعالى: ويدعون ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله: فلا يستطيعون أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم.
وعقيدة الأشعرية: أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا). [المحرر الوجيز: 8/ 377-380]
تفسير قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و: خاشعةً نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: ترهقهم ذلّةٌ أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهورا يخزيهم، وقوله تعالى: وقد كانوا يدعون إلى السّجود يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: «السجود» هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص «السجود» بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي والشعبي: أراد ب السّجود الصلوات المكتوبة، وقال ابن جبير: المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة: وحي على الفلاح فلا يجيبون، وفلج الربيع بن خيثم: فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع حي على الفلاح، فليجب ولو حبوا، وقيل لابن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع حي على الفلاح فلا أجيب؟ والله لا فعلت.
وهذا كله قريب بعضه من بعض). [المحرر الوجيز: 8/ 380]