تفسير قوله تعالى: (فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإنّ فرعون لعالٍ في الأرض وإنّه لمن المسرفين}.
يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة إلاّ ذرّيّةٌ من قومه خائفين من فرعون وملئهم.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في معنى الذّرّيّة في هذا الموضع، فقال بعضهم: الذّرّيّة في هذا الموضع: القليل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه} قال: كان ابن عبّاسٍ يقول: الذّرّيّة: القليل.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله تعالى: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه} الذّرّيّة: القليل، كما قال اللّه تعالى: {كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين}.
وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ ممّن أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزّمان؛ لأنّ الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم ذرّيّةٌ، لأنّهم كانوا ذرّيّة من هلك ممّن أرسل إليهم موسى عليه السّلام.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، في قوله تعالى: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه} قال: أولاد الّذين أرسل إليهم من طول الزّمان ومات آباؤهم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ؛ وحدّثني المثنّى قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، بنحوه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه} قال: أولاد الّذين أرسل إليهم موسى من طول الزّمان ومات آباؤهم.
- حدّثني الحرث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملئهم أن يفتنهم} قال: أبناء أولئك الّذين أرسل إليهم فطال عليهم الزّمان وماتت آباؤهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قوم فرعون.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملئهم أن يفتنهم} قال: كانت الذّرّيّة الّتي آمنت لموسى من أناسٍ غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسيرٌ، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ خبرٌ يدلّ على خلاف هذا القول، وذلك ما:
- حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ذرّيّةٌ من قومه} يقول: بني إسرائيل.
فهذا الخبر ينبئ عنه أنّه كان يرى أنّ الذّرّيّة في هذا الموضع هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية القول الّذي ذكرته عن مجاهدٍ، وهو أنّ الذّرّيّة في هذا الموضع أريد بها ذرّيّة من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرّوا بنبوّته لطول الزّمان، فأدركت ذرّيّتهم فآمن منهم من ذكر اللّه بموسى.
وإنّما قلت هذا القول أولى بالصّواب في ذلك لأنّه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فلأن تكون الهاء في قوله {من قومه} من ذكر موسى لقربهم من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ من خبرٍ ولا نظرٍ.
وبعد، فإنّ في قوله: {على خوفٍ من فرعون وملئهم} الدّليل الواضح على أنّ الهاء في قوله: {إلاّ ذرّيّةٌ من قومه} من ذكر موسى لا من ذكر فرعون؛ لأنّها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام: على خوفٍ منه، ولم يكن {على خوفٍ من فرعون}.
وأمّا قوله: {على خوفٍ من فرعون} فإنّه يعني على حال خوفٍ ممّن آمن من ذرّيّة قوم موسى بموسى.
فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه من بني إسرائيل، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم.
وقد زعم بعض أهل العربيّة أنّه إنّما قيل: فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه، لأنّ الّذين آمنوا به إنّما كانت أمّهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم الذّرّيّة من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الّذين أمّهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: أبناءٌ.
والمعروف من معنى الذّرّيّة في كلام العرب: أنّها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرّجال والنّساء، كما قال جلّ ثناؤه: {ذرّيّة من حملنا مع نوحٍ} وكما قال: {ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف} ثمّ قال بعد: {وزكريّا ويحيى وعيسى وإلياس} فجعل من كان من قبل الرّجال والنّساء من ذرّيّة إبراهيم.
وأمّا قوله: {وملئهم} فإنّ الملأ: الأشراف. وتأويل الكلام: على خوفٍ من فرعون، ومن أشرافهم.
واختلف أهل العربيّة فيمن عنى بالهاء والميم اللّتين في قوله: {وملئهم} فقال بعض نحويّي البصرة: عنى بها الذّرّيّة. وكأنّه وجّه الكلام إلى: فما آمن لموسى إلاّ ذرّيّةٌ من قومه، على خوفٍ من فرعون، وملأ الذّرّيّة من بني إسرائيل.
وقال بعض نحويّي الكوفة: عنى بهما فرعون، قال: وإنّما جاز ذلك وفرعون واحدٌ؛ لأنّ الملك إذا ذكر لخوفٍ أو سفرٍ وقدومٍ من سفرٍ ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنّك تقول: قدم الخليفة فكثر النّاس، تريد بمن معه، وقدم فغلت الأسعار؟ لأنّا ننوي بقدومه قدوم من معه. قال: وقد يكون يريد أنّ بفرعون آل فرعون، ويحذف آل فرعون فيجوز، كما قال: {واسأل القرية} يريد أهل القرية، واللّه أعلم.
قال: ومثله قوله: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصّواب قول من قال: الهاء والميم عائدتان على الذّرّيّة. ووجّه معنى الكلام إلى أنّه على خوفٍ من فرعون، وملأ الذّرّيّة؛ لأنّه كان في ذرّيّة القرن الّذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًّا وأمّه إسرائيليّة، فمن كان كذلك منهم كان مع فرعون على موسى.
وقوله: {أن يفتنهم} يقول: كان إيمان من آمن من ذرّيّة قوم موسى على خوفٍ من فرعون أن يفتنهم بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرّجوع عن إيمانهم، والكفر باللّه.
وقال: {أن يفتنهم} فوحّد ولم يقل: أن يفتنوهم، لدليل الخبر عن فرعون بذلك أنّ قومه كانوا على مثل ما كان عليه لما قد تقدّم من قوله: {على خوفٍ من فرعون وملئهم}.
وقوله: {وإنّ فرعون لعالٍ في الأرض} يقول تعالى ذكره: وإنّ فرعون لجبّارٌ مستكبرٌ على اللّه في أرضه. {وإنّه لمن المسرفين} وإنّه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، وذلك كفره باللّه، وتركه الإيمان به، وجحوده وحدانيّة اللّه، وادّعاؤه لنفسه الألوهة، وسفكه الدّماء بغير حلّها). [جامع البيان: 12/244-250]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فما آمن لموسى إلّا ذرّيّةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإنّ فرعون لعالٍ في الأرض وإنّه لمن المسرفين (83)
قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرّيّةٌ من قومه
- حدّثنا أبي أبو صالحٍ، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: ذرّيّةٌ من قومه يقول: بني إسرائيل.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، عن الوليد، عن خليدٍ عن قتادة، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ في قوله: فما آمن لموسى إلا ذرّيّةٌ من قومه قال: الذّرّيّة القليل.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أبو الجماهر، ثنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن زيدٍ يعني عبد الرّحمن عن أبيه، زيد بن أسلم أنّه قال في هذه الآية: فما آمن لموسى إلا ذرّيّةً من قومه على خوفٍ من فرعون قال: كان فرعون يذبح الغلمان فلمّا كان من أمر موسى عليه السّلام ما كان حين ضرب موسى بالعصا، وهو قاعد عبد عنده أخرجه ثمّ قطر عن قتل ذرّيّةٍ بني إسرائيل وعرف أنّه هو الّذي كان يقتل في سببه ذرية بني إسرائيل فنشئت ناشئةٌ فيما بين ذلك إلى أن جاء موسى من مدين حين بعثه اللّه عزّ وجلّ رسولا وهي الذّرّيّة الّتي قال اللّه: فما آمن لموسى إلا ذرّيّةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون.
قوله تعالى: على خوفٍ من فرعون
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن يزيد بن أسلم في قول الله: وملائهم قال: هذا واحدٌ نزل القرآن على كلام العرب قوله: وإنّ فرعون لعالٍ في الأرض يقول: تجبّر في الأرض). [تفسير القرآن العظيم: 6/1975]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه يعني أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم). [تفسير مجاهد: 295]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 83 – 86
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فما آمن لموسى إلا ذرية} قال: الذرية القليل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {ذرية من قومه} قال: من بني إسرائيل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الذرية التي آمنت بموسى من أناس بني إسرائيل من قوم فرعون منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه). [الدر المنثور: 7/691-692]
تفسير قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكّلوا إن كنتم مّسلمين}.
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانيّة اللّه وصدّقتم بربوبيّته. {فعليه توكّلوا} يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلّموا، فإنّه لن يخذل وليّه ويسلم من توكّل عليه. {إن كنتم مسلمين} يقول: إن كنتم مذعنين للّه بالطّاعة، فعليه توكّلوا). [جامع البيان: 12/250]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين (84)
قوله تعالى: وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق يعني على الله توكّلوا أي أرضى به من العباد). [تفسير القرآن العظيم: 6/1975]
تفسير قوله تعالى: (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال لا تسلط علينا فيقتلونا). [تفسير عبد الرزاق: 1/297]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآية (85) : قوله تعالى: {فقالوا على الله توكّلنا ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ - في قوله عزّ وجلّ: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} - قال: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا .
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، قال: كنّا مع ابن عبّاسٍ فابترك رجلٌ من الأمراء يقال له الهزهاز، فتطاول حتّى ما رأيت في البيت أطول منه، فقال له ابن عبّاسٍ: يا هزهاز، (لا تكن) فتنةً للقوم الظّالمين، فتقاصر حتّى ما رأيت في البيت أحدًا أقصر منه). [سنن سعيد بن منصور: 5/327-329]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فقالوا على اللّه توكّلنا ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين}.
يقول تعالى ذكره: فقال قوم موسى لموسى: {على اللّه توكّلنا} أي به وثقنا، وإليه فوّضنا أمرنا.
وقوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} يقول جلّ ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنّهم دعوا ربّهم فقالوا: يا ربّنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا؛ يعنون قوم فرعون.
وقد اختلف أهل التّأويل في المعنى الّذي سألوه ربّهم من إعادته ابتلاء قوم فرعون بهم، فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنّوا أنّهم خيرٌ منهم، وأنّهم إنّما سلّطوا عليهم لكرامتهم عليه، وهوان الآخرين.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن عمران بن حديرٍ، عن أبي مجلزٍ، في قوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا يظهروا علينا فيروا أنّهم خيرٌ منّا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن عمران بن حديرٍ، عن أبي مجلزٍ في قوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنّهم خيرٌ منّا.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضّحى، {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا تسلّطهم علينا فيزدادوا طغيانًا.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضّحى: {لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا تسلّطهم علينا فيزدادوا فتنةً.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن الزّبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا تسلّطهم علينا فيضلّونا.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله. وقال أيضًا: فيفتنونا.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} لا تسلّطهم علينا فيفتنونا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} لا تعذّبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذابٍ من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حقٍّ ما سلّطنا عليهم ولا عذّبوا، فيفتنوا بنا.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا تعذّبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذابٍ من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حقٍّ ما سلّطنا عليهم ولا عذّبوا، فيفتتنوا بنا.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، قوله: {لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} قال: لا تصبنا بعذابٍ من عندك، ولا بأيديهم فيفتتنوا، ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ ما سلّطنا عليهم وما عذّبوا.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله تعالى: {ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين} لا تبتلنا ربّنا فتجهدنا وتجعله فتنةً لهم هذه الفتنة. وقرأ: {فتنةً للظّالمين} قال المشركون حين كانوا يؤذون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، والمؤمنين، ويرمونهم: أليس ذلك فتنةً لهم، وسوءًا لهم؟ وهي بليّةٌ للمؤمنين.
والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ القوم رغبوا إلى اللّه في أن يجيرهم من أن يكونوا محنةً لقوم فرعون وبلاءً، وكلّ ما كان من أمرٍ كان لهم مصدّةٌ عن اتّباع موسى، والإقرار به وبما جاءهم به، فإنّه لا شكّ أنّه كان لهم فتنةٌ، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان باللّه ورسوله، وكذلك من المصدّة كان لهم عن الإيمان، أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من اللّه محنةٌ في أنفسهم من بليّةٍ تنزل بهم، فاستعاذ القوم باللّه من كلّ معنى يكون صادًا لقوم فرعون عن الإيمان باللّه بأسبابهم). [جامع البيان: 12/250-254]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (فقالوا على اللّه توكّلنا ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين (85) ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين (86)
قوله تعالى: فقالوا على اللّه توكّلنا
- وبه قال: قال محمّد بن إسحاق: وعلى اللّه لا على النّاس فليتوكّل المؤمنون.
قوله تعالى: ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين ونجّنا
- حدّثنا حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين يقول: لا تعذّبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذابٍ من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حقٍّ ما عذّبوا ولا سلّطنا عليهم فيفتنون بنا.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن أبيه، عن أبي الضّحى: ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين قال: إن تسلّطهم علينا فيزدادوا طغيانًا وروي عن أبي قلابة نحو ذلك
- حدّثنا أبي، ثنا أبو سلمة، ثنا حمّادٌ بن سلمة، عن عمران بن حذيرٍ، عن أبي مجلزٍ في قوله: لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين، يقول: ربّنا لا تظهرهم علينا فيروا أنّهم خيرٌ منّا، وروي عن عكرمة نحو ذلك.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ربّنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظّالمين قال: لا تبتلنا بهم فتجهدنا نحن، ونجعل فتنةً لهم هذا الفتنة وقرأ فتنةً للظّالمين وقال: المشركين حيث كانوا يؤذون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين، ويرمونهم أليس ذلك فتنةً لهم وشرًا لهم وهي بليّةٌ للمؤمنين). [تفسير القرآن العظيم: 6/1975-1976]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين يعني لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون فيقولون لو كانوا على حق ما عذبوا بأيدينا ولا سلطنا عليهم فيفتتنون بنا ولا بعذاب من عندك). [تفسير مجاهد: 295-296]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ونعيم بن حماد في الفتن وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} قال: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون: لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي قلابة رضي الله عنه في قول موسى عليه السلام {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} قال: سأل ربه أن لا يظهر علينا عدونا فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك.
وأخرج ابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي مجلز في قوله {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} قال: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا). [الدر المنثور: 7/692-693]
تفسير قوله تعالى: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين}.
يقول تعالى ذكره: ونجّنا يا ربّنا برحمتك، فخلّصنا من أيدي القوم الكافرين قوم فرعون؛ لأنّهم كان يستعبدونهم، ويستعملونهم في الأشياء القذرة من خدمتهم). [جامع البيان: 12/254]