تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه ولكن تصديق الّذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين}.
يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون اللّه، يقول: ما ينبغي له أن يتخرّصه أحدٌ من عند غير اللّه، وذلك نظير قوله: {وما كان لنبيٍّ أن يغلّ} بمعنى: ما ينبغي لنبيٍّ أن يغلّه أصحابه.
وإنّما هذا خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه أنّ هذا القرآن من عنده أنزله إلى محمّدٍ عبده، وتكذيبًا منه للمشركين الّذين قالوا: هو شعرٌ وكهانةٌ. والّذين قالوا: إنّما يتعلّمه محمّدٌ من يعيش الرّوميّ.
يقول لهم جلّ ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير اللّه، لأنّ ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق. {ولكن تصديق الّذي بين يديه} يقول تعالى ذكره: ولكنّه من عند اللّه أنزله مصدّقًا لما بين يديه؛ أي لما قبله من الكتب الّتي أنزلت على أنبياء اللّه كالتّوراة والإنجيل وغيرهما من كتب اللّه الّتي أنزلها على أنبيائه {وتفصيل الكتاب} يقول: وتبيان الكتاب الّذي كتبه اللّه على أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وفرائضه الّتي فرضها عليهم في السّابق من علمه. {لا ريب فيه} يقول: لا شكّ فيه أنّه تصديق الّذي بين يديه من الكتاب، وتفصيل الكتاب من عند ربّ العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ). [جامع البيان: 12/181-182]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون اللّه ولكن تصديق الّذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين (37)
قوله تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله الآية
- أخبرنا محمّد بن سعيدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ قوله: بين يديه قال: هو هذا القرآن شاهدًا على التّوراة والإنجيل مصدّقًا بهما.
قوله تعالى: تفصيل الكتاب لا ريب فيه
- حدّثنا أبي، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافعٍ، ثنا جرير بن عثمان، عن عبد الرّحمن بن أبي عوفٍ، عن عبد الرّحمن بن مسعودٍ الفزاريّ، عن أبي الدّرداء الرّيب يعني: الشّكّ من الكفر
قال أبو محمّدٍ ولا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسّرين منهم ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ وأبو مالكٍ ونافعٌ ثنا ابن عمر وعطاء بن أبي رباحٍ وأبو العالية والرّبيع وقتادة ومقاتل بن حيّان والسّدّيّ وإسماعيل بن أبي خالد.
قوله: من رب العالمين
قد تقدم تفسير: رب العالمين). [تفسير القرآن العظيم: 6/1952-1953]
تفسير قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين}.
يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمّدٌ هذا القرآن من نفسه، فاختلقه وافتعله. قل يا محمّد لهم: إن كان كما تقولون أنّي اختلقته وافتريته، فإنّكم مثلي من العرب، ولساني وكلامي مثل لسانكم، فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرآن.
والهاء في قوله {مثله} كنايةٌ عن القرآن.
وقد كان بعض نحويّي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورةٍ مثل سورته، ثمّ ألقيت سورةٌ وأضيف المثل إلى ما كان مضافًا إليه السّورة، كما قيل: {واسأل القرية} [يوسف] يراد به: واسأل أهل القرية.
وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ويزعم أنّ معناه: فأتوا بقرآنٍ مثل هذا القرآن.
والصّواب من القول في ذلك عندي أنّ السّورة إنّما هي سورةٌ من القرآن، وهي قرآنٌ، وإن لم تكن جميع القرآن، فقيل لهم: {فأتوا بسورةٍ من مثله} ولم يقل: مثلها، لأنّ الكناية أخرجت على المعنى، أعني معنى السّورة، لا على لفظها، لأنّها لو أخرجت على لفظها لقيل: فأتوا بسورةٍ مثلها.
{وادعوا من استطعتم مّن دون الله} يقول: وادعوا أيّها المشركون على أن يأتوا بسورةٍ مثلها من قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم {من دون اللّه} يقول: من عند غير اللّه، فأجمعوا على ذلك واجتهدوا، فإنّكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا.
وقوله: {إن كنتم صادقين} يقول: إن كنتم صادقين في أنّ محمّدًا افتراه، فأتوا بسورةٍ مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها، فإن لم تفعلوا ذلك فلا شكّ أنّكم كذبةٌ في زعمكم أنّ محمّدًا افتراه؛ لأنّ محمّدًا لن يعدو أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز). [جامع البيان: 12/182-183]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين (38)
قوله تعالى: أم يقولون افتراه
- حدّثنا أبي، ثنا عليّ بن رستم، ثنا محمّد بن الحسن الصنعاني، ثنا منذر ابن النّعمان الأفطس، عن وهب بن منبّهٍ قال: الكذب هو الفرية وإنّ رأس الفرية الكذب على اللّه ثمّ هو ما بين ذلك حتى يأتي... كذب وما بين الكفر باللّه كفرٌ يأتي كفر النّعم.
قوله تعالى: فأتوا بسورةٍ مثله
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: فأتوا بسورةٍ مثله قال: مثل هذا القرآن.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا العبّاس بن الوليد النّرسيّ ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سفيان، عن قتادة، قوله: فأتوا بسورةٍ مثله قال: مثل هذا القرآن حقًّا وصدقًا لا باطل فيه ولا كذب.
قوله تعالى: وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ وادعوا من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين.
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ وادعوا قال: ناسٌ يشهدون به). [تفسير القرآن العظيم: 6/1953]
تفسير قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله كذلك كذّب الّذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظّالمين}.
يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمّد تكذيبك، ولكن بهم التّكذيب {بما لم يحيطوا بعلمه} ممّا أنزل اللّه عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربّهم، {ولمّا يأتهم تأويله} يقول: ولمّا يأتهم بعد بيان ما يئول إليه ذلك الوعيد الّذي توعّدهم اللّه في هذا القرآن. {كذلك كذّب الّذين من قبلهم} يقول تعالى ذكره: كما كذّب هؤلاء المشركون يا محمّد بوعيد اللّه، كذلك كذّب الأمم الّتي خلت قبلهم بوعيد اللّه إيّاهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربّهم. {فانظر كيف كان عاقبة الظّالمين} يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: فانظر يا محمّد كيف كان عقبى كفر من كفر باللّه، ألم نهلك بعضهم بالرّجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإنّ عاقبة هؤلاء الّذين يكذّبونك، ويجحدون بآياتي من كفّار قومك، كالّتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم ويسارعوا إلى التّوبة). [جامع البيان: 12/184]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله كذلك كذّب الّذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظّالمين (39)
قوله عزّ وجلّ: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي الحسين، حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ قوله: الظالمين فنفاهم الله ظالمين بشركهم). [تفسير القرآن العظيم: 6/1953]
تفسير قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومنهم من يؤمن به ومنهم مّن لاّ يؤمن به وربّك أعلم بالمفسدين}.
يقول تعالى ذكره: ومن قومك يا محمّد من قريشٍ من سوف يؤمن به، يقول: من سوف يصدّق بالقرآن، ويقرّ أنّه من عند اللّه. {ومنهم من لا يؤمن به} أبدًا، يقول: ومنهم من لا يصدّق به، ولا يقرّ أبدًا. {وربّك أعلم بالمفسدين} يقول: واللّه أعلم بالمكذّبين به منهم، الّذين لا يصدّقون به أبدًا من كلّ أحدٍ لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأمّا من كتبت له أن يؤمن به منهم فإنّي سأتوب عليه). [جامع البيان: 12/184]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربّك أعلم بالمفسدين (40)
قوله تعالى: ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربّك أعلم بالمفسدين
- حدّثنا أبي، ثنا عيسى بن جعفرٍ، ثنا مسلمٌ عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قال: أنّ اللّه لا يخفى عليه الّذين يريدون منك الإصلاح والإفساد). [تفسير القرآن العظيم: 6/1954]
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٌ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: وإن كذّبك يا محمّد هؤلاء المشركون وردّوا عليك ما جئتهم به من عند ربّك، فقل لهم: أيّها القوم لي ديني وعملي، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرّني عملكم ولا يضرّكم عملي، وإنّما يجازى كلّ عاملٍ بعمله. {أنتم بريئون ممّا أعمل} لا تؤاخذون بجريرته، {وأنا بريءٌ ممّا تعملون} لا أؤاخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جلّ ثناؤه: {قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
وقيل: إنّ هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم}. الآية، قال: أمره بهذا ثمّ نسخه، وأمره بجهادهم). [جامع البيان: 12/185]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون (41)
قوله تعالى: وإن كذّبوك فقل لي عملي الآية
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قول اللّه: وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون قال: أمره بهذا ثمّ نسخه فأمره بجهادهم). [تفسير القرآن العظيم: 6/1954]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 41 - 43.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله {وإن كذبوك فقل لي عملي} الآية، قال: أمره بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم). [الدر المنثور: 7/663]