تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّما السّبيل على الّذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون}.
يقول تعالى ذكره: ما السّبيل بالعقوبة على أهل العذر يا محمّد، ولكنّها على الّذين يستأذنونك في التّخلّف خلافك، وترك الجهاد معك وهم أهل غنًى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو، نفاقًا وشكًّا في وعد اللّه ووعيده. {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النّساء، وهنّ الخوالف خلف الرّجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك. {وطبع اللّه على قلوبهم} يقول: وختم اللّه على قلوبهم بما كسبوا من الذّنوب. {فهم لا يعلمون} سوء عاقبتهم بتخلّفهم عنك وتركهم الجهاد معك وما عليهم من قبيح الثّناء في الدّنيا وعظيم البلاء في الآخرة). [جامع البيان: 11/627]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إنّما السّبيل على الّذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون (93)
قوله تعالى: إنّما السّبيل على الّذين يستأذنونك.
بياضٌ
قوله تعالى: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.
قد تقدّم تفسيره). [تفسير القرآن العظيم: 6/1864]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 93 - 96.
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {إنما السبيل على الذين يستأذنونك} قال: هي وما بعدها إلى قوله {فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} في المنافقين). [الدر المنثور: 7/489]
تفسير قوله تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا اللّه من أخباركم وسيرى اللّه عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون}.
يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم أيّها المؤمنون باللّه هؤلاء المتخلّفون خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، التّاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين بالأباطيل والكذب إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم؛ قل لهم يا محمّد: {لا تعتذروا لن نؤمن لكم} يقول: لن نصدّقكم على ما تقولون. {قد نبّأنا اللّه من أخباركم} يقول: قد أخبرنا اللّه من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبكم. {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} يقول: وسيرى اللّه ورسوله فيما بعد عملكم، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه {ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشّهادة} يقول: ثمّ ترجعون بعد مماتكم إلى عالم الغيب والشّهادة؛ يعني الّذي يعلم السّرّ والعلانية الّذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها. {فينبّئكم بما كنتم تعملون} فيخبركم بأعمالكم كلّها سيّئها وحسنها، فيجازيكم بها الحسن منها بالحسن والسّيّئ منها بالسّيّئ). [جامع البيان: 11/628]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا اللّه من أخباركم وسيرى اللّه عملكم ورسوله ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون (94)
قوله تعالى: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال: ثمّ ذكر حلفهم للمسلمين، واعتذارهم إليهم، يعني قوله: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم.
قوله تعالى: لا تعتذروا لن نؤمن لكم.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان ثنا الحسين بن عليٍّ ثنا عامر بن الفرات ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا اللّه من أخباركم فأخبرنا أنّكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالا. وسيرى اللّه عملكم ورسوله فسيرون ما تفعلون.
قوله تعالى: عالم الغيب والشهادة الآية.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا المقدّميّ ثنا عامر بن صالحٍ عن أبي بكرٍ الهذليّ عن الحسن قال: الشّهادة ما قد رأيتم من خلقه، والغيب: ما غاب عنكم ما لم تروه). [تفسير القرآن العظيم: 6/1864-1865]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله {قد نبأنا الله من أخباركم} قال: أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالا وفي قوله: {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} قال: لما رجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا تكلموهم ولا تجالسوهم فأعرضوا عنهم كما أمر الله). [الدر المنثور: 7/489-490]
تفسير قوله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم، فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون} [التوبة: 95]
- حدّثنا يحيى، حدّثنا اللّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه، أنّ عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ ، قال: سمعت كعب بن مالكٍ، حين تخلّف عن تبوك: " واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا حين أنزل الوحي: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم} [التوبة: 95] إلى قوله {الفاسقين} [التوبة: 96] "). [صحيح البخاري: 6/68-69]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم الآية)
سقط لكم من رواية الأصيليّ والصّواب إثباتها ثمّ ذكر فيه طرفًا من حديث كعب بن مالكٍ الطّويل في قصّة توبته يتعلّق بالتّرجمة وقوله فيه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ كذا للأكثر وللمستملي وحده على عبدٍ نعمةً والأوّل هو الصّواب وقد سبق شرح الحديث بطوله في كتاب المغازي قوله باب قوله سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم الآية سقط لكم من رواية الأصيليّ والصّواب إثباتها ثمّ ذكر فيه طرفًا من حديث كعب بن مالكٍ الطّويل في قصّة توبته يتعلّق بالتّرجمة وقوله فيه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ كذا للأكثر وللمستملي وحده على عبدٍ نعمةً والأوّل هو الصّواب وقد سبق شرح الحديث بطوله في كتاب المغازي). [فتح الباري: 8/340]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون} (التّوبة: 95)
أي: هذا باب في قوله عز وجل: {سيحلفون باللّه} الآية، وسقط في رواية الأصيليّ لفظ: لكم، والصّواب إثباتها، وأخبر الله عن المنافقين بأنّهم إذا رجعوا إلى المدينة يعتذرون ويحلفون باللّه لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم فأعرضوا عنهم احتقارا لهم إنّهم رجس، أي: جبناء نجس بواطنهم واعتقاداتهم ومأواهم في آخره جهنّم جزاء بما كانوا يكسبون من الآثام والخطايا.
- حدّثنا يحيى حدّثنا اللّيث عن عقيلٍ عن ابن شهابٍ عن عبد الرّحمان بن عبد الله أنّ عبد الله بن كعب بن مالكٍ قال سمعت كعب بن مالكٍ حين تخلّف عن تبوك والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا حين أنزل الوحي {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} إلى قوله: {الفاسقين} .
مطابقته للتّرجمة ظاهرة ويحيى هو ابن عبد الله بن بكير المخزومي المصريّ. والحديث مضى مطولا في غزوة تبوك بهذا الإسناد ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (ما أنعم الله عليّ من نعمة) كذا في رواية الأكثرين. وفي رواية المستملي وحده على عبد نعمة، والأول هو الصّواب. قوله: (أن لا أكون) قال عياض: كذا وقع في نسخ البخاريّ ومسلم، والمعنى: أن أكون كذبته، ولا زائدة كما قال الله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} أي: أن تسجد. قوله: {أن لا أكون} مستقبل (وكذبته) ماض وبينهما منافاة ظاهرا، ولكن المستقبل في معنى الاستمرار المتناول للماضي فلا منافاة بينهما. قوله: (إلى الفاسقين) تفسير قوله: (إليهم) ). [عمدة القاري: 18/275]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون} [التوبة: 95]
(باب قوله) تعالى، التبويب وتاليه ثابت لأبي ذر ساقط لغيره ({سيحلفون بالله لكم}) أيمانًا كاذبة والمحلوف عليه أنهم ما قدروا على الخروج في غزوة تبوك ({إذا انقلبتم}) رجعتم من الغزو ({إليهم لتعرضوا عنهم}) فلا تعاتبوهم ({فأعرضوا عنهم}) احتقارًا لهم ولا توبخوهم ({إنهم رجس}) قدّر نجس بواطنهم واعتقاداتهم وهو علة للإعراض وترك المعاتبة ({ومأواهم جهنم}) مصيرهم في الآخرة إليها وهو من تمام التعليل ({جزاء بما كانوا يكسبون}) [التوبة: 95]. من النفاق ونصب جزاء على المصدر بفعل من لفظه مقدر أي يجزون جزاء وسقط قوله فأعرضوا عنهم الخ لأبي ذر وقال ابن حجر: سقط لكلام أي قوله: {سيحلفون بالله لكم} من رواية الأصيلي والصواب إثباتها.
- حدّثنا يحيى، حدّثنا اللّيث، عن عقيلٍ عن ابن شهابٍ عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه أنّ عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ قال: سمعت كعب بن مالكٍ حين تخلّف عن تبوك واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا حين أنزل الوحي {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم} -إلى قوله- {الفاسقين} [التوبة: 95 - 96].
وبه قال: (حدّثنا يحيى) هو ابن عبد الله بن بكير المخزومي المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبد الرحمن بن عبد الله أن) أباه (عبد الله بن كعب) ولغير أبي ذر زيادة ابن مالك (قال: سمعت) أبي (كعب بن مالك حين تخلف عن) غزوة (تبوك) غير منصرف يقول: (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني) وزاد في المغازي للإسلام، ولأبي ذر عن المستملي على عبد قال الحافظ ابن حجر: والأول هو الصواب (أعظم من صدقي رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أن لا أكون كذبته) لا زائدة والمعنى أن أكون كذبته. واستشكل كون أكون مستقبلاً وكذبت ماضيًا وأجيب بأن المستقبل في معنى الاستمرار المتناول للماضي فلا منافاة بينهما (فأهلك) بكسر اللام وتفتح والنصب أي فإن أهلك (كما هلك) أي كهلاك (الذين كذبوا حين أنزل الوحي) بقوله تعالى: ({سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} -إلى قوله- {الفاسقين}) [التوبة: 95 - 96] الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم-.
وهذا الحديث قد ذكره المؤلّف في غزوة تبوك مطولاً). [إرشاد الساري: 7/156-157]
- قال محمدُ بنُ عبدِ الهادي السِّنْديُّ (ت: 1136هـ) : (باب {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجسٌ ومأواهم جهنم جزاءً بما كانوا يكسبون}
قوله: (لتعرضوا عنهم) أي: فلا تعاتبوهم، وقوله: فأعرضوا عنهم، أي: احتقاراً لهم. وقوله: إنهم رجس، أي: قذر نجس بواطنهم، واعتقاداتهم، وهو علة للإعراض، وترك المعاتبة.
قوله: (أن لا أكون كذبته) لا زائدة والمعنى أن أكون كذبته، وأكون مضارع بمعنى الاستمرار المتناول للماضي، فلا منافاة بينه وبين كذبته. وقوله: فأهلك، بكسر اللام وتفتح النصب، أي: فإن أهلك اهـ قسطلاني). [حاشية السندي على البخاري: 3/53-54]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون}.
يقول تعالى ذكره: سيحلف أيّها المؤمنون باللّه لكم هؤلاء المنافقون الّذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه، {إذا انقلبتم إليهم} يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، {لتعرضوا عنهم} فلا تؤنّبوهم. {فأعرضوا عنهم} يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم وخلّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنّفاق. {إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم} يقول: إنّهم نجسٌ ومأواهم جهنّم، يقول: ومصيرهم إلى جهنّم وهي مسكنهم الّذي يأوونه في الآخرة. {جزاءً بما كانوا يكسبون} يقول: ثوابًا بأعمالهم الّتي كانوا يعملونها في الدّنيا من معاصي اللّه.
وذكر أنّ هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين قالا ما:
- حدّثنا به، محمّد بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا}.. إلى: {بما كانوا يكسبون} وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر لعلّك أن تصيب بنت عظيم الرّوم، فإنّهم حسانٌ فقال رجلان: قد علمت يا رسول اللّه أنّ النّساء فتنةٌ، فلا تفتنّا بهنّ، فأذن لنا فأذن لهما؛ فلمّا انطلقا، قال أحدهما: إن هو إلاّ شحمةٌ لأوّل آكلٍ. فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم ينزل عليه في ذلك شيءٌ، فلمّا كان ببعض الطّريق نزل عليه وهو على بعض المياه: {لو كان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتّبعوك ولكن بعدت عليهم الشّقّة}، ونزل عليه: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم}، ونزل عليه: {لا يستأذنك الّذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر}، ونزل عليه: {إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون} فسمع ذلك رجلٌ ممّن غزا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتاهم وهم خلفهم، فقال: تعلمون أن قد أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعدكم قرآنٌ، قالوا: ما الّذي سمعت؟ قال ما أدري، غير أنّي سمعت أنّه يقول: {إنّهم رجسٌ}، فقال رجلٌ يدعى مخشيًّا: واللّه لوددت أنّي أجلد مائة جلدةٍ وأنّي لست معكم فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: ما جاء بك؟ فقال: وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تسفعه الرّيح وأنا في الكنّ، فأنزل اللّه عليه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي} {وقالوا لا تنفروا في الحرّ} ونزل عليه في الرّجل الّذي قال: لوددت أنّي أجلد مائة جلدةٍ، قول اللّه: {يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورةٌ تنبّئهم بما في قلوبهم} فقال رجلٌ مع رسول اللّه: لئن كان هؤلاء كما يقولون ما فينا خيرٌ. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له: أنت صاحب الكلمة الّتي سمعت؟ فقال: لا والّذي أنزل عليك الكتاب فأنزل اللّه فيه: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} وأنزل فيه: {وفيكم سمّاعون لهم واللّه عليمٌ بالظّالمين}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، أنّ عبد اللّه بن كعبٍ، قال: سمعت كعب بن مالكٍ، يقول: لمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من تبوك، جلس للنّاس، فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكّل سرائرهم إلى اللّه وصدقته حديثي. فقال كعبٌ: واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسك من صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن لاّ أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوا، إنّ اللّه، قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحدٍ: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون}.. إلى قوله: {فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين}). [جامع البيان: 11/629-631]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون (95)
قوله تعالى: سيحلفون باللّه لكم.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قوله: سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم قال: المنافقون.
قوله تعالى: فأعرضوا عنهم إنّهم رجس الآية.
- ذكر عن عبد الرّحمن بن بشر بن الحكم ثنا موسى بن عبد العزيز قال: سألت الحكم قلت: قوله: سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ قال: حدّثني عكرمة قال: قال محاش بن عويمرٍ: إن كانوا هم أرجاسًا فنحن أشرّ من الحمير، ففيهم نزلت هذه الآية، فسأله رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئًا فسأله، فقال: ما قلت شيئًا فقال: لا جرم كيف لا أعترف وقد جاء بها جبريل عليه السّلام من السّماء؟!.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان ثنا الحسين بن عليٍّ ثنا عامر بن الفرات ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ قال: لمّا خرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- خلف عليًّا بعده ولم يخرج به معه فخاض النّاس فقالوا: إنّما خلفه لسخطه، فأدركه عليٌّ في الطّريق فأخبره بما قال المنافقون فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- لعليٍّ- رضي اللّه عنه-: إنّ موسى لمّا ذهب إلى ربه استخلف هارون، وإنّي أستخلفك بعدي أفما ترضى أن تكون منّي كمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنّه لا نبيّ بعدي، قال: بلى يا رسول اللّه، فلمّا رجع استقبله عليّ، فأردفه النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- خلفه وقال: لعن اللّه المنافقين والمخالفين، فدخل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وعليٌّ قائمٌ خلفه يلعن المنافقين، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم للمؤمنين: لا تكلّموهم ولا تجالسوهم، فأعرضوا عنهم كما أمركم اللّه عزّ وجلّ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1865]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله {قد نبأنا الله من أخباركم} قال: أخبرنا أنكم لو خرجتم ما زدتمونا إلا خبالا وفي قوله: {فأعرضوا عنهم إنهم رجس} قال: لما رجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا تكلموهم ولا تجالسوهم فأعرضوا عنهم كما أمر الله). [الدر المنثور: 7/489-490] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله {لتعرضوا عنهم} لتتجاوزوا). [الدر المنثور: 7/490]
تفسير قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) )
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (باب قوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم} إلى قوله {الفاسقين} (التّوبة: 96)
أي: هذا باب في قوله تعالى: {يحلفون لكم} إلى آخره، هكذا ثبت هذا الباب لأبي ذر وحده بغير حديث، وليس بمذكور أصلا في رواية الباقين نزلت هذه في المنافقين يحلفون لكم لأجل أن ترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم بحلفانهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، أي: الخارجين عن طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم). [عمدة القاري: 18/275]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم} -إلى قوله- {الفاسقين} [التوبة: 96]
(باب قوله) جل وعلا: ({يحلفون لكم لترضوا عنهم}) بحلفهم ({فإن ترضوا عنهم} -الى قوله- {الفاسقين}) [التوبة: 96]. والمراد النهي عن الرضا عنهم. قال في المفاتح: لا تكرار في هذه المعاني لأن الأول يعني قوله: سيحلفون خطاب منافقي المدينة وهذه مع المنافقين من الأعراب.
وهذا الباب وتاليه ثابت لأبي ذر وحده من غير ذكر حديث ساقط لغيره). [إرشاد الساري: 7/157]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين}.
يقول تعالى ذكره: يحلف لكم أيّها المؤمنون باللّه هؤلاء المنافقون اعتذارًا بالباطل والكذب {لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين} يقول: فإن أنتم أيّها المؤمنون رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم، إذا كنتم لا تعلمون صدقهم من كذبهم، فإنّ رضاكم عنهم غير نافعهم عند اللّه؛ لأنّ اللّه يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون، ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون، وأنّهم على الكفر باللّه، يعني أنّهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر باللّه ومن الطّاعة إلى المعصية). [جامع البيان: 11/631]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)
قوله تعالى: يحلفون لكم لترضوا عنهم.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قوله: يحلفون لكم لترضوا إلى قوله: الفاسقين قال: في المنافقين). [تفسير القرآن العظيم: 6/1866]