العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الأنفال

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 11:09 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير سورة الأنفال [ من الآية (72) إلى الآية (75) ]

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 ربيع الثاني 1434هـ/3-03-2013م, 11:59 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): ({والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا}؛ فكان الأعرابي لا يرث المهاجري، وقال: {وإن جنحوا للسلم فأجنح لها}؛
فنسختها الآية التي في براءة: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}). [الجامع في علوم القرآن: 3/73-74]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى ما لكم من ولايتهم من شيء قال كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وآخى بينهم النبي فكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ ذلك قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين). [تفسير عبد الرزاق: 1/262]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ}.
يقول تعالى ذكره: إنّ الّذين صدّقوا اللّه ورسوله. {وهاجروا} يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم. {وجاهدوا في سبيل اللّه} يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصابها في حرب أعداء اللّه من الكفّار في سبيل اللّه، يقول في دين اللّه الّذي جعله طريقًا إلى رحمته والنّجاة من عذابه. {والّذين آووا ونصروا} يقول: والّذين آووا رسول اللّه والمهاجرين معه، يعني أنّهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول: أسكنوهم وجعلوا لهم من منازلهم مساكن؛ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم {ونصروا} يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء اللّه من المشركين. {أولئك بعضهم أولياء بعضٍ} يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعضٍ، وأعوانٌ على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدةٌ على من كفر باللّه، وبعضهم إخوانٌ لبعضٍ دون أقربائهم الكفّار.
وقد قيل: إنّما عنى بذلك أنّ بعضهم أولى بميراث بعضٍ، وأنّ اللّه ورّث بعضهم من بعضٍ بالهجرة والنّصرة دون القرابة والأرحام، وأنّ اللّه نسخ ذلك بعد بقوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ} يعني في الميراث. جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، قال اللّه: {والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} يقول: ما لكم من ميراثهم من شيءٍ، وكانوا يعملون بذلك، حتّى أنزل اللّه هذه الآية: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} في الميراث، فنسخت الّتي قبلها، وصار الميراث لذوي الأرحام.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} يقول: لا هجرة بعد الفتح، إنّما هو الشّهادة بعد ذلك {والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ} إلى قوله: {حتّى يهاجروا} وذلك أنّ المؤمنين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ثلاث منازل. منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى قومٍ مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم، و{آووا ونصروا} وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السّيوف على من كذّب وجحد، فهذان مؤمنان جعل اللّه بعضهم أولياء بعضٍ، فكانوا يتوارثون بينهم إذا توفّي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاريّ بالولاية في الدّين، وكان الّذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنّه لم يهاجر ولم ينصر. فبرّأ اللّه المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية الّتي قال اللّه: {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} وكان حقًّا على المؤمنين الّذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدّين أن ينصروهم إن قاتلوا إلاّ أن يستنصروا على قومٍ بينهم وبين النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ميثاقٌ، فلا نصر لهم عليهم إلاّ على العدوّ الّذين لا ميثاق لهم. ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك أن ألحق كلّ ذي رحمٍ برحمه من المؤمنين الّذين هاجروا والّذين آمنوا ولم يهاجروا، فجعل لكلّ إنسانٍ من المؤمنين نصيبًا مفروضًا بقوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}، وبقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ}.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الثّلاث الآيات خواتيم الأنفال فيهنّ ذكر ما كان من ولاية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث، ثمّ نسخ ذلك آخرها: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبد اللّه بن كثيرٍ، قوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا} إلى قوله: {بما تعملون بصيرٌ} قال: بلغنا أنّها كانت في الميراث لا يتوارث المؤمنون الّذين هاجروا والمؤمنون الّذين لم يهاجروا، قال: ثمّ نزل بعد: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} فتوارثوا ولم يهاجروا.
قال ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ: خواتيم الأنفال الثّلاث الآيات فيهنّ ذكر ما كان والى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث، ثمّ نسخ ذلك آخرها: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا} إلى قوله: {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} قال: لبث المسلمون زمانًا يتوارثون بالهجرة، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا، فنسخ ذلك بعد ذلك قول اللّه: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفًا}، أي من أهل الشّرك. فأجيزت الوصيّة، ولا ميراث لهم، وصارت المواريث بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين، ولا يرث أهل ملّتين.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، والحسن، قالا: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} إلى قوله: {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} كان الأعرابيّ لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر، فنسخها فقال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ} في الميراث {والّذين آمنوا ولم يهاجروا} وهؤلاء الأعراب {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ} في الميراث {وإن استنصروكم في الدّين} يقول بأنّهم مسلمون {فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ} {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} في الميراث {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} الّذين توارثوا على الهجرة في كتاب اللّه، ثمّ نسختها الفرائض والمواريث، فتوارث الأعراب والمهاجرون.

القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ}.
يعني بقوله تعالى ذكره: {والّذين آمنوا} الّذين صدّقوا باللّه ورسوله {ولم يهاجروا} قومهم الكفّار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. {ما لكم} أيّها المؤمنون باللّه ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرض الحرب {من ولايتهم} يعني: من نصرتهم وميراثهم. وقد ذكرت قول بعض من قال: معنى الولاية هاهنا الميراث، وسأذكر إن شاء اللّه من حضرني ذكره بعد.
{من شيءٍ حتّى يهاجروا} قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام. {وإن استنصروكم في الدّين} يقول: إن استنصركم هؤلاء الّذين آمنوا ولم يهاجروا في الدّين، يعني بأنّهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيّها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النّصر، إلاّ أن يستنصروكم على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ، يعني عهدٌ قد وثق به بعضكم على بعضٍ أن لا يحاربه.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة: {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وآخى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة، وكان الرّجل يسلم ولا يهاجر لا يرث أخاه، فنسخ ذلك قوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين}.
- حدّثنا محمّدٌ، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزّهريّ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أخذ على رجلٍ دخل في الإسلام، فقال: تقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، وأنّك لا ترى نار مشركٍ إلاّ وأنت حربٌ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وإن استنصروكم في الدّين} يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون أيّها المهاجرون والأنصار على عدوّهم فعليكم أن تنصروهم {إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: ترك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم النّاس يوم توفّي على أربع منازل: مؤمنٌ مهاجرٌ، والأنصار، وأعرابيّ مؤمنٌ لم يهاجر، إن استنصره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم نصره وإن تركه فهو إذنٌ له وإن استنصر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الدّين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: {وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر} والرّابعة: التّابعون بإحسانٍ.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا} إلى آخر السّورة، قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توفّي وترك النّاس على أربع منازل: مؤمنٌ مهاجرٌ، ومسلمٌ أعرابيٌّ، والّذين آووا ونصروا، والتّابعون بإحسانٍ). [جامع البيان: 11/289-295]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلّا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ (72)
قوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ- فيما كتب إليّ- ثنا أبي ثنا عمّي عن أبيه عن جدّه عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قوله: إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه يقول: لا هجرة بعد الفتح إنّما هو الشّهادة بعد ذلك، وذلك أنّ المؤمنين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى قومٍ مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم.
قوله تعالى: والّذين آووا ونصروا
- وبه عن ابن عبّاسٍ قوله: والّذين آووا ونصروا قال: آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السّيوف على من كذّب وجحد فهذان مؤمنان جعل اللّه بعضهم أولياء بعضٍ.
قوله تعالى: أولئك بعضهم أولياء بعضٍ
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ أولئك بعضهم أولياء بعضٍ يعني: في الميراث، جعل اللّه الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام.
قوله تعالى: والّذين آمنوا ولم يهاجروا
- أخبرنا أحمد بن عثمان- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: والّذين آمنوا ولم يهاجروا هؤلاء الأعراب.
- أخبرنا محمّد بن سعد بن عطيّة- فيما كتب- إليّ ثنا أبي ثنا عمّي عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا قال: فكانوا يتوارثون بينهم إذا توفّي المؤمن المهاجر بالولاية في الدّين، وكان الّذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنّه لم يهاجر ولم ينصر.
- حدّثنا أبي ثنا محمّد بن عبد اللّه بن بكير بن سليمان الصّنعانيّ ببيت المقدس ثنا أبو سعيدٍ عبد الرّحمن بن عبد اللّه البصريّ مولى بني هاشمٍ ثنا عمر بن فرّوخ ثنا حبيب بن الزّبير عن عكرمة في قول اللّه تعالى والّذين آمنوا ولم يهاجروا قال: لبث برهةً والأعرابيّ لا يرث المهاجر، ولا المهاجر يرث الأعرابيّ حتّى فتحت مكّة ودخل النّاس في الدّين أفواجًا، فأنزل اللّه تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه
قوله تعالى: ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: ما لكم من ولايتهم من شيءٍ ما لكم من ميراثهم شيءٌ
- أخبرنا محمّد بن سعد بن عطيّة- فيما كتب إليّ- ثنا أبي ثنا عمّي عن أبيه عن جدّه عن عبد اللّه بن عبّاسٍ ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا فبرّأ اللّه المؤمنين المهاجرين من ميراثهم وهي الولاية الّتي قال اللّه: ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وكان حقًّا على المؤمنين.
قوله تعالى: وإن استنصروكم في الدّين
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: وإن استنصروكم يعني: إن استنصروا الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدوٍّ لهم فعليهم أن ينصروهم قال: إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ- فيما كتب إليّ- ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: وإن استنصروكم في الدّين يقول: بأنّهم مسلمون
قوله تعالى: فعليكم النّصر إلا على قوم الآية.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ- فيما كتب إليّ ثنا أبي- ثنا عمّي عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ فعليكم النّصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ إن استنصروهم في الدّين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قومٍ بينهم وبين النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ميثاقٌ، ولا نصر لهم عليهم إلا على العدوّ الّذين لا ميثاق لهم.
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ- فيما كتب إليّ- ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ حدّثنا شيبان عن قتادة قوله: وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ قال: نهى المسلمون عن أهل ميثاقهم فو الله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمةً وحقًّا). [تفسير القرآن العظيم: 5/1738-1740]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د) ابن عباس - رضي الله عنهما -: في قوله عز وجل: {والذين آمنوا وهاجروا} وقوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} قال: كان الأعرابيّ لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخت، فقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 72 - 75] أخرجه أبو داود). [جامع الأصول: 2/150]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 72.
أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه في قوله {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل، منهم المؤمن والمهاجر المباين لقومه في الهجرة خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم وفي قوله {والذين آووا ونصروا} وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض وفي قوله {والذين آمنوا ولم يهاجروا}
قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر فبؤأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم وهي الولاية التي قال الله {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النّبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق ولا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك: إن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا ولم يهاجروا فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا لقوله {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} الأنفال الآية 75.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وبين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه: تآخوا وهذا أخي - يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال: فأقام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة الأنفال وكان مما شدد الله به عقد نبيه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا} إلى قوله {لهم مغفرة ورزق كريم} فأحكم الله تعالى بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار يتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة من ذوي الأرحام والقرابات فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله ثم أنزل الله الآية الآخرى فنسخت ما كان قبلها فقال {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام} والقرابات ورجع كل رجل إلى نسبه ورحمه وانقطعت تلك الوراثة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين
والأنصار دون الأرحام {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء} ما لكم من ميراثهم شيء {حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين} يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم فعليهم أن ينصروهم {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله تعالى هذه الآية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فنسخت التي قبلها وصارت المواريث لذوي الأرحام.
وأخرج أبو عبيدة وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها هذه الآية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه في قوله {والذين آمنوا ولم يهاجروا} قال: كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا المهاجر يرث الأعرابي حتى فتحت مكة ودخل الناس في الدين أفواجا فأنزل الله {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال: نزلت هذه الآية فتوارثت المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر المسلم شيئا حتى نسخ ذلك بعد في سورة الأحزاب (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) فخلط الله بعضهم ببعض وصارت المواريث بالملل.
وأخرج أحمد ومسلم عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال: اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن آتوا فأقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} قال: نهى المسلمون عن أهل ميثاقهم فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة وحقا والله أعلم). [الدر المنثور: 7/212-217]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الكلبي في قوله تعالى إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قال كان ناس من المشركين يأتون فيقولون لا نكون من المسلمين ولا مع الكفار فأمرهم الله تعالى إما أن يدخلوا مع المسلمين وإما أن يلحقوا بالكفار.
عن معمر عن الزهري أن النبي أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب). [تفسير عبد الرزاق: 1/262]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض كان يقرؤها عريض). [تفسير عبد الرزاق: 1/263]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن السدي عن أبي مالك قال: قال رجلٌ: لنورّثنّ أرحامنا من المشركين فنزلت {إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير} فيكم [الآية: 73]). [تفسير الثوري: 122]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ}.
يقول تعالى ذكره: {والّذين كفروا} باللّه ورسوله {بعضهم أولياء بعضٍ} يقول: بعضهم أعوان بعضٍ وأنصاره، وأحقّ به من المؤمنين باللّه ورسوله.
وقد ذكرنا قول من قال: عنى بيان أنّ بعضهم أحقّ بميراث بعضٍ من قرابتهم من المؤمنين. وسنذكر بقيّة من حضرنا ذكره.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قال: قال رجلٌ: نورّث أرحامنا من المشركين، فنزلت: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} الآية.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} نزلت في مواريث مشركي أهل العهد.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا} إلى قوله: {وفسادٌ كبيرٌ} قال: كان المؤمن المهاجر، والمؤمن الّذي ليس بمهاجرٍ لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأنّ هذا الدّين كان بهذا البلد قليلاً حتّى كان يوم الفتح، فلمّا كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: لا هجرة بعد الفتح. وقرأ: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}.
وقال آخرون: معنى ذلك: إنّ الكفّار بعضهم أنصار بعضٍ وإنّه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب ولم يهاجر.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} قال: كان ينزل الرّجل بين المسلمين والمشركين فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم. فأبى اللّه عليهم ذلك، وأنزل اللّه في ذلك، فلا تراءى نار مسلمٍ ونار مشركٍ إلاّ صاحب جزيةٍ مقرًّا بالخراج.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حضّ اللّه المؤمنين على التّواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايةٍ في الدّين دون من سواهم، وجعل الكفّار بعضه أولياء بعضٍ.
وأمّا قوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} فإنّ أهل التّأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: إلاّ تفعلوا أيّها المؤمنون ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعضٍ بالهجرة والأنصار بالإيمان دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفّار {تكن فتنةٌ} يقول: يحدث بلاءٌ في الأرض بسبب ذلك {وفسادٌ كبيرٌ} يعني: ومعاصي اللّه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} إلاّ تفعلوا هذا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ. قال: ولم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقبل الإيمان إلاّ بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلاّ بالهجرة.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} يعني في الميراث {إلاّ تفعلوه} يقول: إلاّ تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به {تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ}.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلاّ تناصروا أيّها المؤمنون في الدّين تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جعل المهاجرين والأنصار أهل ولايةٍ في الدّين دون من سواهم، وجعل الكفّار بعضهم أولياء بعضٍ، ثمّ قال: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} أن يتولّى المؤمن الكافر دون المؤمن. ثمّ ردّ المواريث إلى الأرحام.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} قال: إلاّ تعاونوا وتناصروا في الدّين، تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى التّأويلين بتأويل قوله: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} قول من قال: معناه أنّ بعضهم أنصار بعضٍ دون المؤمنين، وأنّه دلالةٌ على تحريم اللّه على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة؛ لأنّ المعروف في كلام العرب من معنى الوليّ أنّه النّصير والمعين أو ابن العمّ والنّسيب. فأمّا الوارث فغير معروفٍ ذلك من معانيه إلاّ بمعنى أنّه يليه في القيام بإرثه من بعده، وذلك معنًى بعيدٌ وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام اللّه إلى الأظهر الأشهر، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ أنّ أولى التّأويلين بقوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} تأويل من قال: إلاّ تفعلوا ما أمرتكم به من التّعاون والنّصرة على الدّين تكن فتنةٌ في الأرض؛ إذ كان مبتدأ الآية من قوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} بالحثّ على الموالاة على الدّين والتّناصر جاء، وكذلك الواجب أن يكون خاتمتها به). [جامع البيان: 11/295-299]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ (73)
قوله تعالى: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ يعني: في الميراث.
- حدّثنا أبي ثنا قبيصة بن عقبة ثنا سفيان عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ قال رجلٌ من المسلمين: لنورثنّ ذوي القربى منّا من المشركين فنزلت والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ بين المسلمين والمشركين فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم وإن ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى اللّه ذلك عليهم وأنزل اللّه في ذلك فلا تراءى ناران: نار مسلمٍ ونار مشركٍ إلا صاحب جزيةٍ مقرٌّ بالخراج.
قوله تعالى: إلا تفعلوه
- حدّثنا أبي حدّثنا أبو صالحٍ حدّثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: إلا تفعلوه يعني: إلا تأخذوا يعني: في الميراث بما أمرتكم به تكن فتنةٌ وفسادٌ كبيرٌ.
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع في قوله: إلا تفعلوه يعني: إلا تولّي الكافر الكافر.
قوله تعالى: تكن فتنةٌ في الأرض
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن أبي حمّادٍ ثنا مهران عن سفيان قوله: إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض قال: كفرٌ وفسادٌ كبيرٌ، قال سفيان: لا أدري أيّتهما قال، الكفر: الفتنة أو الفساد؟
قوله تعالى: وفسادٌ كبيرٌ
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدّشتكيّ ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع في قوله: تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ يعني: لا يصلح لمسلمٍ أن يرث الكافر). [تفسير القرآن العظيم: 5/1741]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 73 - 74.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق أبي مالك رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل من المسلمين لنورثن ذوي القربى منا من المشركين فنزلت {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} قال: نزلت في مواريث مشركي أهل العرب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} يعني في المواريث {إلا تفعلوه} يقول: إن لا تأخذوا في المواريث بما أمرتكم به.
وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما ثم قرأ {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن يحيى بن أبي كثير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون أمانته وخلقه فأنكحوه كائنا ما كان فإن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). [الدر المنثور: 7/217-219]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مّغفرةٌ ورزق كريمٌ}.
يقول تعالى ذكره: {والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا} آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمهاجرين معه ونصروهم ونصروا دين اللّه، أولئك هم أهل الإيمان باللّه ورسوله حقًّا، لا من آمن ولم يهاجر دار الشّرك وأقام بين أظهر أهل الشّرك ولم يغز مع المسلمين عدوّهم. {لهم مّغفرةٌ} يقول: لهم سترٌ من اللّه على ذنوبهم بعفوه لهم عنها، {ورزقٌ كريمٌ} يقول: لهم في الجنّة طعامٌ ومشرب هنيٌّ كريمٌ، لا يتغيّر في أجوافهم فيصير نجوًا، ولكنّه يصير رشحًا كرشح المسك.
وهذه الآية تنبئ عن صحّة ما قلنا أنّ معنى قول اللّه: {بعضهم أولياء بعضٍ} في هذه الآية، وقوله: {ما لكم من ولايتهم من شيءٍ} إنّما هو النّصرة والمعونة دون الميراث؛ لأنّه جلّ ثناؤه عقّب ذلك بالثّناء على المهاجرين والأنصار والخبر عمّا لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله: {والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا} الآية، ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك الدّلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلاّ الحثّ على مضيّ الميراث على ما أمر، وفي صحّة ذلك كذلك الدّليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيءٍ ولا منسوخ). [جامع البيان: 11/299-300]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ (74)
قوله تعالى: والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا
قد تقدّم تفسيره واللّه أعلم.
قوله تعالى: لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ- فيما كتب إليّ- أنبأ أصبغ بن الفرج أنبأ عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قول اللّه مغفرةٌ قال: بترك الذّنوب ورزقٌ كريمٌ قال: الأعمال الصّالحة). [تفسير القرآن العظيم: 5/1742]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (أخبرني سعد بن عبد اللّه المعافري عن أبي معشر عن [القرظي .. .. {السابقون الأوّلون] من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم [بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا] عنه}، وأخذ [عمر بيده فقال]: من أقرأك بها، قال: أبيّ بن كعبٍ، قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه، قال: لمّا جاءه قال عمر: [أنت أقرأت] هذه الآية، قال: نعم، قال: أنت [سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: نعم، قد] كنت أظنّ أنّا قد رفعنا رفعةً لا يبلغه أحدٌ بعدنا؛ قال: بلى، [تصديق هذه الآية في أوّل سورة الجمعة وأوسط] سورة الحشر، وآخر سورة الأنفال؛ في سورة الجمعة و [ .. = .. ] {والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين [سبقونا بالإيمان}، وفي سورة الأنفال: {والّذين آمنوا] من بعد وهاجروا وجاهدوا [معكم فأولئك منكم}). [الجامع في علوم القرآن: 2/1-2] (م)
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (ثم قال في سورة النساء: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهًا ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ}؛
وقال: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}؛ كان الرجل يحالف الرجل يقول: ترثني أرثك؛ فنسخ ذلك في سورة الأنفال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إن الله بكل شيءٍ عليمٌ}). [الجامع في علوم القرآن: 3/69-70] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}.
يقول تعالى ذكره: والّذين آمنوا باللّه ورسوله من بعد تبياني ما بيّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا وانقطاع ولايتهم ممّن آمن ولم يهاجر حتّى يهاجر، وهاجروا دار الكفر إلى دار الإسلام وجاهدوا معكم أيّها المؤمنون، فأولئك منكم في الولاية يجب عليكم لهم من الحقّ والنّصرة في الدّين والموارثة مثل الّذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعضٍ.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثمّ ردّ المواريث إلى الأرحام الّتي بيّنها فقال: {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} أي في الميراث {إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليم}.
يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في الميراث، إذا كانوا ممّن قسم اللّه له منه نصيبًا وحظًّا من الحليف والوليّ {في كتاب اللّه} يقول: في حكم اللّه الّذي كتبه في اللّوح المحفوظ والسّابق من القضاء. {إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} يقول: إنّ اللّه عالمٌ بما يصلح عباده في توريثه بعضهم من بعضٍ في القرابة والنّسب دون الحلف بالعقد، وبغير ذلك من الأمور كلّها، لا يخفى عليه شيءٌ منها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن المقدام، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا قتادة، أنّه قال: كان لا يرث الأعرابيّ المهاجر حتّى أنزل اللّه: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا معاذ بن معاذٍ، قال: حدّثنا ابن عونٍ، عن عيسى بن الحارث أنّ أخاه شريح بن الحارث كانت له سرّيّةٌ فولدت منه جاريةً، فلمّا شبّت الجارية زوّجت، فولدت غلامًا، ثمّ ماتت السّرّيّة، واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريحٍ القاضي في ميراثها، فجعل شريح بن الحارث يقول: ليس له ميراثٌ في كتاب اللّه. قال: فقضى شريحٌ بالميراث للغلام. قال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزّبير، وأخبره بقضاء شريحٍ وقوله فكتب ابن الزّبير إلى شريحٍ أنّ ميسرة أخبرني أنّك قضيت بكذا وكذا وقلت: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} وإنّه ليس كذلك إنّما نزلت هذه الآية: أنّ الرّجل كان يعاقد الرّجل يقول: ترثني وأرثك، فنزلت: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} فجاء بالكتاب إلى شريحٍ، فقال شريحٌ: أعتقها جنين بطنها، وأبى أن يرجع عن قضائه.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن ابن عونٍ، قال: حدّثني عيسى بن الحارث، قال: كانت لشريح بن الحارث سرّيّةٌ، فذكر نحوه، إلاّ أنّه قال في حديثه: كان الرّجل يعاقد الرّجل يقول: ترثني وأرثك، فلمّا نزلت ترك ذلك). [جامع البيان: 11/300-302]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (75)
قوله تعالى: والّذين آمنوا من بعدٌ وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: حضّ اللّه المؤمنين على التّواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايةٍ في الدّين دون من سواهم.
- حدّثنا أبي ثنا عبد العزيز بن منيبٍ ثنا أبو معاذٍ النّحويّ ثنا عبيد بن سليمان عن الضّحّاك قوله: والّذين آمنوا (من بعد) وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توفّي وترك النّاس على أربع منازل: مؤمنٌ مهاجرٌ، ومسلمٌ أعرابيٌّ والّذين آووا ونصروا والتّابعين بإحسان.
قوله تعالى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية.
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن بكرٍ المصعبيّ من سكنى بغداد، ثنا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزّبير بن العوّام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش والأنصار وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه قال: وذلك أنّا معشر قريشٍ لمّا قدمنا المدينة ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم، فآخى أبو بكرٍ خارجة بن زيدٍ، وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان بن عفّان رجلاً من بني زريق بن سعدٍ الزّرقيّ ويقول بعض النّاس غيره قال الزّبير: وواخيت أنا كعب بن مالكٍ، وأورثونا وأورثناهم، فلمّا كان يوم أحدٍ قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالكٍ، فجئته فانتقلته، فوجدت السّلاح قد ثقّله فيما نرى، فو الله يا بنيّ لو مات يومئذٍ عن الدّنيا ما ورثه غيري، حتّى أنزل اللّه هذه الآية فينا معشر قريشٍ والأنصار خاصّةً فرجعنا إلى مواريثنا.
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا حجّاج بن محمّدٍ، أنبأ ابن جريجٍ وعثمان بن عطاءٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ عن ابن عبّاسٍ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا... في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا فكان المهاجر لا يتولّى الأعرابيّ ولا يرث وهو مؤمنٌ ولا يرث الأعرابيّ المهاجر فنسختها هذه الآية وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ ثنا عبد اللّه بن لهيعة ثنا عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قول الله: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٍ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من مواريث العقد والحلف والمواريث بالهجرة وصارت لذوي الأرحام قال: والوالد أولى من الأخ والأخ والأخت أولى من ابن الأخ وابن الأخ أولى من العمّ والعمّ أولى من ابن العمّ وابن العمّ أولى من الخال، وليس للخال ولا العمّة ولا الخالة من الميراث نصيبٌ في قول زيدٍ رضي اللّه عنه وكان عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يعطي ثلثي المال للعمّة والثّلث للخالة، إذا لم يكن له وارثٌ وكان عليّ وابن مسعودٍ رضي اللّه عنهما يعني: يردّان ما فضل من الميراث على ذوي الأرحام على قدر سهمانهم غير الزّوج والمرأة.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن حربٍ الموصليّ ثنا حميد بن عبد الرّحمن الرّؤاسيّ عن الحسن بن عبيد اللّه عن القاسم عن ابن عبّاسٍ وقيل له أنّ ابن مسعودٍ لا يورّث الموالي دون ذوي الأرحام، ويقول: إنّ ذوي الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه، فقال ابن عبّاسٍ: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنّما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه يعني: أنّه يورّث المولى.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن نسير بن ذعلوقٍ قال: قال رجلٌ للرّبيع: أوص لي بمصحفك فنظر إلى ابنٍ له صغير فقال: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه
قوله تعالى: في كتاب اللّه
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: كتاب قال: القرآن.
قوله تعالى: إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٍ
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا زنيجٌ ثنا سلمة ثنا محمّد بن إسحاق عليمٌ أي: عليمٌ بما يخفون.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ ثنا عبد اللّه بن لهيعة ثنا عطاء بن ديار عن سعيد بن جبيرٍ في قول اللّه: إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ يعني: من أعمالكم عليمٌ). [تفسير القرآن العظيم: 5/1742-1744]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د) ابن عباس - رضي الله عنهما -: في قوله عز وجل: {والذين آمنوا وهاجروا} وقوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} قال: كان الأعرابيّ لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخت، فقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 72 - 75] أخرجه أبو داود). [جامع الأصول: 2/150] (م)
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه} [الأنفال: 75].
- عن ابن عبّاسٍ «أنّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - آخى بين أصحابه، فجعلوا يتوارثون بذلك حتّى نزلت {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ} [الأنفال: 75] فتوارثوا بالنّسب».
رواه الطّبرانيّ، ورجاله رجال الصّحيح). [مجمع الزوائد: 7/28]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 75.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم توفي على أربعة منازل، مؤمن مهاجر والأنصار وأعرابي مؤمن لم يهاجر إن استنصره النّبيّ نصره وإن تركه فهو إذن له وإن استنصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان حقا عليه أن ينصره وذلك (استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (الأنفال الآية 72) والرابعة التابعين بإحسان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه، مثله.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش والأنصار {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وتوارثنا فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد وآخى عمر رضي الله عنه فلانا وآخى عثمان رضي الله عنه رجلا من بني زريق بن سعد الزرقي، قال الزبير: وواخيت أنا كعب بن مالك ووارثونا ووارثناهم فلما كان يوم أحد قيل لي قتل أخوك كعب بن مالك فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما نرى فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن الزبير أنه كتب إلى شريح القاضي: إنما نزلت هذه الآية أن الرجل كان يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك فنزلت {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فلما نزلت ترك ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قيل له: إن ابن مسعود رضي الله عنه لا يورث الموالي دون الأرحام ويقول: إن ذوي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هيهات هيهات، أين ذهب إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} يعني أنه يورث المولى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} قال: نسخت هذه الآية ما كان قبلها من مواريث العقد والحلف والمواريث بالهجرة وصارت لذوي الأرحام قال: والابن أولى من الأخ والأخ أولى من الأخت والأخت أولى من ابن الأخ، وابن الأخ أولى من العم والعم أولى من ابن العم، وابن العم أولى من الخال وليس للخال ولا العمة ولا الخالة من الميراث نصيب في قول زيد وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي ثلثي المال للعمة والثلث للخالة إذا لم يكن له وارث وكان علي، وابن مسعود يردان ما فضل من الميراث على ذوي الأرحام على قدر سهمانهم غير الزوج والمرأة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: كان لا يرث الأعرابي المهاجر حتى أنزل الله {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: توارثت المسلمون لما قدموا المدينة بالهجرة ثم نسخ ذلك فقال {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب). [الدر المنثور: 7/219-221]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27 ربيع الثاني 1434هـ/9-03-2013م, 11:30 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) )

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم...}
ثم قال: {أولئك بعضهم أولياء بعضٍ} في المواريث، كانوا يتوارثون دون قراباتهم ممن لم يهاجر.
وذلك قوله: {والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم مّن ولايتهم} يريد: من مواريثهم. وكسر الواو في الولاية أعجب إليّ من فتحها؛ لأنها إنما تفتح أكثر من ذلك إذا كانت
[معاني القرآن: 1/418]
في معنى النصرة، وكان الكسائيّ يفتحها ويذهب بها إلى النصرة، ولا أراه علم التفسير. ويختارون في وليته ولاية الكسر، وقد سمعناهما بالفتح والكسر في معناهما جميعا، وقال الشاعر:
دعيهم فهم ألبٌ عليّ ولايةٌ =وحفرهم أن يعلموا ذاك دائب
ثم نزلت بعد:
{والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ}.
فتوارثوا، ونسخت هذه الآخرة الآية التي قبلها. وذلك أنّ وقوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ...} ). [معاني القرآن: 1/418-419]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وهاجروا} مجازه: هاجروا قومهم وبلادهم وأخرجوا منها.
{من ولايتهم} إذا فتحتها فهي مصدر المولى وإذا كسرتها فهي مصدر الوالي الذي يلي الأمر والمولى والمولى واحد). [مجاز القرآن: 1/250-251]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا وّنصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم مّن ولايتهم مّن شيءٍ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم مّيثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ}
وقال: {ما لكم مّن ولايتهم مّن شيءٍ} وهو في الولاء. وأمّا في السلطان فـ"الولاية" ولا أعلم كسر الواو في الأخرى إلا لغة). [معاني القرآن: 2/29]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة العامة {من ولايتهم} بنصب الواو، و{هنالك الولاية}.
الأعمش وطلحة بن مصرف {هنالك الولاية} و {ما لكم من ولايتهم} بالكسر فيهما.
وقالوا: الولاية والولاية للسطان جميعًا؛ وقالوا: هم على ولاية بالفتح؛ أي متوالون، كأن الفتح أغلب في المعنى على الآية؛ لأنه من التولي؛ من توليت الرجل: صار لي وليًا). [معاني القرآن لقطرب: 619]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({ما لكم من ولايتهم}: الولاية النصرة يقال نحن ولاية لكم على من عاداكم وهم لكم ولاية إذا كانوا أنصارا، والولاية ولاية الإمارة). [غريب القرآن وتفسيره: 160]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} [آية: 72]
قيل إنه يقال هاجر الرجل إذا خرج من أرض إلى أرض
وقيل إنما قيل هجر وهاجر فلان لأن الرجل كان إذا أسلم هجره قومه وهجرهم فإذا خاف الفتنة على نفسه رحل عنهم فسمي مسيره هجرة
وقيل هاجر لأنه كان على هجرته لقومه وهجرتهم له فهو مهاجر هجر دار قومه ووطنه وارتحل إلى دار الإسلام وهما هجرتان فالمهاجرون الأولون الذين هاجروا إلى أرض الحبشة والآخرون الذين هاجروا إلى المدينة إلى وقت الفتح
وانقطعت الهجرة لأن الدار كلها دار الإسلام فلا هجرة وهذا قول أهل الحديث ومن يوثق بعلمه
وقوله جل وعز: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء} [آية: 72]

أي من نصرتهم ووراثتهم
قال قتادة كان الرجل يؤاخي الرجل فيقول ترثني وأرثك ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} ). [معاني القرآن: 3/173-174]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مِّن وَلاَيَتِهِم}: من نصرتهم). [العمدة في غريب القرآن: 145]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ...}
إلا تتوارثوا على القرابات تكن فتنة. وذكر أنه في النصر: إلا تتناصروا تكن فتنة). [معاني القرآن: 1/419]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} يريد هذه الموالاة أن يكون المؤمنون أولياء المؤمنين. والمهاجرون أولياء الأنصار. وبعضهم من بعض - والكافرون أولياء الكافرين. أي وإن لم يكن هذا كذا، كانت فتنة في الأرض وفساد كبير). [تفسير غريب القرآن: 181]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (ثم قال عز وجل: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه} [آية: 73]
ومعنى إن لا تفعلوه إن لا تفعلوا النصر والموالاة
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس إلا تفعلوه قال يقول إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به
وقال ابن زيد أي إلا تتركوهم يتوارثون على ما كانوا
قال مجاهد هذا منسوخ نسخه {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}
وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال هذا في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل على أن يتوارثا فنسخ ذلك وقيل نسخته الفرائض
وأكثر الرواة على أن الناسخ له وأولو ا الأرحام بعضهم الآية
وروى سفيان عن السدي عن أبي مالك قال: قال رجل نورث أرحامنا المشركين فنزلت: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} وروى يونس عن الحسن قال كان الأعرابي لا يرث مهاجرا حتى نزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فقد تبين أن معنى الآية أن أهل الأرحام يتوارثون بأرحامهم دون الذين حالفوهم ونسخ ذلك ما كان قبله من التوارث بالمخالفة). [معاني القرآن: 3/174-175]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} أي إلا تفعلوا الموالاة بين المؤمنين بعضهم من بعض فكذلك المهاجرين وهم أولياء الأنصار). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 93]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) )

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) )
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وأولوا الأرحام}ذووا، ألا ترى أن واحدها ذو). [مجاز القرآن: 1/251]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}
وقال: {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} فجعل الخبر بالفاء كما تقول: "الذي يأتيني فله درهمان" فتلحق الفاء لما صارت في معنى المجازاة). [معاني القرآن: 2/29]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {وأولوا الأرحام} الواحد منه «ذو» من غير لفظه وهو و«ذو» واحد). [تفسير غريب القرآن: 181]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (ومعنى: {والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيء عليم}
{وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض}.
أي بعضهم في المواريث أولى ببعض.
وهذه المواريث في الولاية بالهجرة منسوخة، نسخها ما في سورة النساء من الفرائض.
وقوله: {وتذهب ريحكم}
معناه تذهب صولتكم وقوتكم، ويقال في الأول: الريح مع فلان، أي الدّولة). [معاني القرآن: 2/425]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 07:59 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: رإِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) }

قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال:آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية). [الكامل: 3/1091-1092]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:17 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ (72)
مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية، وذكر نسب بعضهم من بعض، فقدم أولا ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و «هاجر» معناه أهله وقرابته وهجروه، وجاهدوا معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم، والّذين آووا ونصروا هم الأنصار وآوى معناه هيأ مأوى وهو الملجأ والحرز، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن بعضهم أولياء بعضٍ، فقال كثير من المفسرين هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضا بين بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ ورثه أخوه الأنصاري، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه، قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية، وعلى التأويلين ففي الآية حض للأعراب على الهجرة، قاله الحسن بن أبي الحسن، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة، قالوا: ونسخ ذلك قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ [الأنفال: 75]، وقرأ جمهور السبعة والناس «ولايتهم» بفتح الواو والولاية أيضا بفتح الواو، وقرأ الكسائي «ولايتهم» بفتح الواو والولاية بكسر الواو، وقرأ الأعمش وابن وثاب «ولايتهم» والولاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها، قال أبو عبيدة: الولاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي في السلطان، والولاية هي من المولى، يقال مولى بين الولاية بفتح الواو، وقوله وإن استنصروكم يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به، والقراءة «فعليكم النصر» برفع الراء، ويجوز «فعليكم النصر» على الإغراء، ولا أحفظه قراءة، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون» على مخاطبة المؤمنين، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون» بالياء على ذكر الغائب).[المحرر الوجيز: 4/ 245-247]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ (73) والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ (74) والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (75)
هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس، كما تقول لمن تريد أن يستطلع: عدوك مجتهد، أي فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال: أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام،
وذلك أيضا مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل: إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً [النساء: 97].
والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر، وقوله تعالى: إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [النساء: 97] إنما هي فيمن قتل مع الكفار، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى نارهما الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصا يقول من غلب كنت معه، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي، والضمير في قوله إلّا تفعلوه قيل هو عائد على الموارثة والتزامها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول، ويظهر أيضا عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه إلّا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ [الأنفال: 72] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين، ويجوز أن يعود الضمير مجملا على جميع ما ذكر، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر، و «الفساد الكبير» ظهور الشرك، وقرأ جمهور الناس «كبير» بالباء المنقوطة واحدة، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «وفساد عريض»، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض»).[المحرر الوجيز: 4/ 247-249]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: والّذين آمنوا وهاجروا الآية، آية تضمنت تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم، وحقًّا نصب على المصدر المؤكد لما قبله، ووصف الرزق بالكريم معناه أنه لا يستحيل نجوا، والمراد به طعام الجنة، كما ذكر الطبري وغيره ولازم اللفظ نفي المذمات عنه، وما ذكروه فهو في ضمن ذلك). [المحرر الوجيز: 4/ 249]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله من بعد يريد به من بعد الحديبية وبيعة الرضوان، وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهجرة الثانية، لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين، ثم كان فتح مكة وبه قال صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح، وقال الطبري: المعنى من بعد ما بينت لكم حكم الولاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنهم من الأولين في المؤازرة وسائر أحكام الإسلام،
وقوله تعالى: وجاهدوا معكم لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر، وقوله فأولئك منكم كذلك، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم»، وقوله وأولوا الأرحام إلى آخر السورة، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجرا معه، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله: إن الآية ليست في المواريث، وهذا فرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك، وقالت فرقة: هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة، وقوله في كتاب اللّه، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ، وعليمٌ صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام). [المحرر الوجيز: 4/ 249-250]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:17 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 03:17 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعضٍ والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتّى يهاجروا وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ (72)}
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاؤوا لنصر اللّه ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصارٍ، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا اللّه ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعضٍ أي: كلٌّ منهم أحقّ بالآخر من كلّ أحدٍ؛ ولهذا آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدّمًا على القرابة، حتّى نسخ اللّه تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاريّ، عن ابن عبّاسٍ ورواه العوفي، وعليّ بن أبي طلحة، عنه وقال مجاهدٌ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، عن شريكٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن جرير -هو ابن عبد اللّه البجليّ -رضي اللّه عنه -قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعضٍ، والطّلقاء من قريشٍ والعتقاء من ثقيفٍ بعضهم أولياء بعضٍ إلى يوم القيامة" تفرّد به أحمد
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا شيبان حدّثنا عكرمة -يعني ابن إبراهيم الأزديّ -حدّثنا عاصمٌ، عن شقيق، عن ابن مسعودٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "المهاجرون والأنصار، والطّلقاء من قريشٍ والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعضٍ في الدّنيا والآخرة". هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود
وقد أثنى اللّه ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آيةٍ في كتابه، فقال: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهار} الآية [التّوبة: 100]، وقال: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} الآية. [التّوبة: 117]، وقال تعالى: {للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانًا وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصّادقون والّذين تبوّءوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ} الآية [الحشر: 8، 9].
وأحسن ما قيل في قوله: {ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممّا أوتوا} أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم اللّه على هجرتهم، فإنّ ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه بين العلماء، لا يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام أبو بكرٍ أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزّار في مسنده: حدّثنا محمّد بن معمر، حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن حذيفة قال: خيّرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين الهجرة والنّصرة، فاخترت الهجرة
ثمّ قال: لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
وقوله: {والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم} [قرأ حمزة: "ولايتهم" بالكسر، والباقون بالفتح، وهما واحدٌ كالدّلالة والدّلالة] {من شيءٍ حتّى يهاجروا} هذا هو الصّنف الثّالث من المؤمنين، وهم الّذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيبٌ، ولا في خمسها إلّا ما حضروا فيه القتال، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: بريدة بن الحصيب الأسلميّ، رضي اللّه عنه، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث أميرًا على سريّةٍ أو جيشٍ، أوصاه في خاصّة نفسه بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: "اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصالٍ -أو: خلالٍ -فأيّتهنّ ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكفّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أنّ لهم ما للمهاجرين، وأنّ عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيبٌ، إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن باللّه ثمّ قاتلهم".
انفرد به مسلمٌ، وعنده زياداتٌ أخر
وقوله: {وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ واللّه بما تعملون بصيرٌ} يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الّذين لم يهاجروا في قتالٍ دينيٍّ، على عدوٍّ لهم فانصروهم، فإنّه واجبٌ عليكم نصرهم؛ لأنّهم إخوانكم في الدّين، إلّا أن يستنصروكم على قومٍ من الكفّار {بينكم وبينهم ميثاقٌ} أي: مهادنةٌ إلى مدّةٍ، فلا تخفروا ذمّتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الّذين عاهدتم. وهذا مرويٌّ عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 95-97]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ (73)}
لمّا ذكر تعالى أنّ المؤمنين بعضهم أولياء بعضٍ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفّار، كما قال الحاكم في مستدركه:
حدّثنا محمّد بن صالح بن هانئٍ، حدّثنا أبو سعدٍ يحيى بن منصورٍ الهرويّ، حدّثنا محمّد بن أبانٍ، حدّثنا محمّد بن يزيد وسفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن عليّ بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا يتوارث أهل ملّتين، ولا يرث مسلمٌ كافرًا، ولا كافرٌ مسلمًا"، ثمّ قرأ: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه
قلت: الحديث في الصّحيحين من رواية أسامة بن زيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وفي المسند والسّنن، من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يتوارث أهل ملّتين شتّى" وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا محمّدٌ، [عن محمّد بن ثورٍ] عن معمرٍ، عن الزّهريّ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخذ على رجلٍ دخل في الإسلام فقال: "تقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتحجّ البيت، وتصوم رمضان، وأنّك لا ترى نار مشركٍ إلّا وأنت له حربٌ"
وهذا مرسلٌ من هذا الوجه، وقد روي متّصلًا من وجهٍ آخر، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه قال: "أنا بريءٌ من كلّ مسلمٍ بين ظهراني المشركين"، ثمّ قال: "لا يتراءى ناراهما"
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدّثنا محمّد بن داود بن سفيان، أخبرني يحيى بن حسّان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدّثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب [حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة] عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنّه مثله"
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد اللّه بن هرمز، عن محمّدٍ وسعيدٍ ابني عبيدٍ، عن أبي حاتمٍ المزنيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ". قالوا: يا رسول اللّه، وإن كان؟ قال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرّاتٍ.
وأخرجه أبو داود والتّرمذيّ، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه
ثمّ روي من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن عجلان، عن ابن وثيمة النّصري عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ"
ومعنى قوله تعالى: {إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ} أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلّا وقعت الفتنة في النّاس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين النّاس فسادٌ منتشرٌ طويلٌ عريضٌ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 97-98]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والّذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ (74) والّذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه إنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (75)}
لمّا ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدّنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، كما تقدّم في أوّل السّورة، وأنّه سيجازيهم بالمغفرة والصّفح عن ذنوبٍ إن كانت، وبالرّزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطّيّب الشّريف، دائمٌ مستمرٌّ أبدًا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يملّ لحسنه وتنوّعه.
ثمّ ذكر أنّ الأتباع لهم في الدّنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصّالح فهم معهم في الآخرة كما قال: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّاتٍ تجري تحتها الأنهار} الآية [التّوبة: 100]، وقال: {والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنااغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للّذين آمنوا ربّنا إنّك رءوفٌ رحيمٌ} [الحشر:10] وفي الحديث المتّفق عليه، بل المتواتر من طرقٍ صحيحةٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "المرء مع من أحبّ"، وفي الحديث الآخر: "من أحبّ قومًا حشر معهم"
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، عن شريكٍ، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن جريرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيفٍ بعضهم أولياء بعضٍ إلى يوم القيامة". قال شريكٌ: فحدّثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرّحمن بن هلالٍ، عن جريرٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مثله.
تفرّد به أحمد من هذين الوجهين
وأمّا قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله} أي: في حكم اللّه، وليس المراد بقوله: {وأولوا الأرحام} خصوصيّة ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الّذين لا فرض لهم ولا هم عصبةٌ، بل يدلون بوارثٍ، كالخالة، والخال، والعمّة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتجّ بالآية، ويعتقد ذلك صريحًا في المسألة، بل الحق أن الآية عامّةٌ تشمل جميع القرابات. كما نصّ ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، والحسن، وقتادة وغير واحدٍ: على أنّها ناسخةٌ للإرث بالحلف والإخاء اللّذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاصّ. ومن لم يورّثهم يحتجّ بأدلّةٍ من أقواها حديث: "إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، فلا وصيّة لوارثٍ"، قالوا: فلو كان ذا حقٍّ لكان له فرضٌ في كتاب اللّه مسمًّى، فلمّا لم يكن كذلك لم يكن وارثًا، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 99-100]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:33 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة