قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ اللّه وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم وما تنفقوا من شيءٍ في سبيل اللّه يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون (60) وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على اللّه إنّه هو السّميع العليم (61)
المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله لهم عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس: «القوة» ذكور الخيل و «الرباط» إناثها، وهذا قول ضعيف،
وقالت فرقة: القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» ثلاثا، وقال السدي: القوة السلاح، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق فقال: هذا من القوة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الصواب، والخيل والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهية والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفا على نحو قوله من كان عدوًّا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال [البقرة: 98] وعلى نحو قوله فاكهةٌ ونخلٌ ورمّانٌ [الرحمن: 68] وهذا كثير، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، هذا في البخاري وغيره، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا»، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر،
ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة، صانعه والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به» وقال عمرو بن عنبسة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا». ورباط الخيل جمع ربط ككلب وكلاب، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة، ويجوز أن يكون الرباط مصدرا من ربط كصاح صياحا ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس، وإن جعلناه مصدرا من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضا. فإذا ربط كل واحد منهم فرسا لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط، وذلك الذي حض في الآية عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها»، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «ومن ربط» بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكتب، كذا نصه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر وترهبون معناه تفزعون وتخوفون، والرهبة الخوف، قال طفيل الغنوي: [البسيط]
ويل أم حيّ دفعتم في نحورهم = بني كلاب غداة الرعب والرهب
ومنه راهب النصارى، يقال رهب إذا خاف، ف ترهبون معدى بالهمزة، وقرأ الحسن ويعقوب «ترهّبون» بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء، قال أبو حاتم: وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون» بالياء من تحت وخففها، فهو على هذا المعدى بالتضعيف، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ذكرها الطبري تفسيرا لا قراءة، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة، وقوله عدوّ اللّه وعدوّكم ذكر الصفتين وإن كانت متقاربة إذ هي متغايرة المنحى، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدوا لله» بتنوين عدو وبلام في المكتوبة، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله وآخرين من دونهم الآية، قال مجاهد الإشارة بقوله وآخرين إلى قريظة، وقال السدي: إلى أهل فارس،
وقال ابن زيد: الإشارة إلى المنافقين، وقالت فرقة: الإشارة إلى الجن، وقالت فرقة: هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله لا تعلمونهم فإذا حملنا قوله لا تعلمونهم على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة وكان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله آخرين إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال: الإشارة إلى الجن، وإذا جعلنا قوله لا تعلمونهم محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال، وكان العلم متعديا إلى مفعولين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا الوجه أشبه عندي، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس الجهاد ونحو هذا، وفيه على احتماله نظر، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبرز معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله، ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جدا والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون، ويحسن أن يقدر قوله لا تعلمونهم بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة، ويحسن أيضا أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقا إذا سمع الآية، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه، وقوله من دونهم بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون» في كلام العرب و «من دون» يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول، ومنه المثل: وأمر دون عبيدة الوذم تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها، ولزوم هذا هو في الآخرة، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة). [المحرر الوجيز: 4/ 225-230]