قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ليميز اللّه الخبيث من الطّيّب ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعاً فيجعله في جهنّم أولئك هم الخاسرون (37) قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنّت الأوّلين (38) وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين كلّه للّه فإن انتهوا فإنّ اللّه بما يعملون بصيرٌ (39) وإن تولّوا فاعلموا أنّ اللّه مولاكم نعم المولى ونعم النّصير (40)
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليميز» بفتح الياء وكسر الميم، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار، تقول مزت الشيء، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا اليوم، وأنشد أبو زيد: [البسيط]
لما ثنى الله عني شرّ عدوته = وانمزت لا منشئا ذعرا ولا وجلا
وهو مطاوع ماز، وقرأ حمزة والكسائي «ليميّز» بضم الياء وفتح الميم وشد الياء، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضا وعيسى البصري، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعدا، وفي القرآن تميّز من الغيظ [الملك: 8] فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي، المعنيّ ب الخبيث الكفار وب الطّيّب المؤمنون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واللام على هذا التأويل من قوله ليميز متعلقة ب يحشرون [الأنفال: 36]، والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعا فيلقيهم في جهنم، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار، وقال ابن سلام والزجّاج:
المعنيّ ب الخبيث المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله، والطّيّب هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واللام على هذا التأويل من قوله ليميز متعلقة ب يغلبون [الأنفال: 36]، والمعنى: الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب، وقوله تعالى على هذا التأويل ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ إلى قوله في جهنّم مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال، فهي كقوله فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم [التوبة: 35] وقاله الزجّاج: وعلى التأويلين فقوله ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه جميعاً إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع، ويركمه في كلام العرب يكثفه، ومنه سحاب مركوم وركام، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
... ... ... ... = زع بالزمام وجوز الليل مركوم
وقوله ويجعل الخبيث بمعنى يلقي، قاله أبو علي، أولئك هم الخاسرون على هذا التأويل يراد المنافقون من الكفار، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات). [المحرر الوجيز: 4/ 187-189]