قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إذ يغشّيكم النّعاس أمنةً منه وينزّل عليكم من السّماء ماءً ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام (11) إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنانٍ (12)
العامل في إذ هو العامل الذي عمل في قوله وإذ يعدكم [الأنفال: 7] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف، وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال: واذكروا إذ فعلنا بكم كذا
وقال الطبري: العامل في إذ قوله ولتطمئنّ [الأنفال: 10].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع احتماله فيه ضعف، ولو جعل العامل في إذ شيئا قريبا مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في إذ حكيمٌ [الأنفال: 10] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل، وقرأ نافع «يغشيكم» بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغشّيكم» بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاس» بالرفع، وحجة من قرأ «يغشاكم» إجماعهم في آية أحد على يغشى طائفةً منكم [آل عمران: 154]، وحجة من قرأ «يغشيكم» أن يجيء الكلام متسقا مع ينزّل، ومعنى يغشّيكم يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة والنّعاس أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماش، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته» الحديث، وينص على ذلك قول الشاعر [ابن الرقاع]: [الكامل]
وسنان أقصده النعاس فرنّقت = في عينه سنة وليس بنائم
وقوله أمنةً مصدر من أمن الرجل يأمن أمنا وأمنة وأمانا، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة، وقرأ ابن محيصن «أمنة» بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده، وقوله وينزّل عليكم من السّماء ماءً تعديد أيضا لهذه النعمة في المطر، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره، وقاله الزجّاج: إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم- بإلقاء الشيطان إليهم- نزعم أنّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر.
وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا: فهذا معنى قوله ليطهّركم به أي من الجنابة، ويذهب عنكم رجز الشّيطان أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر، والرجز العذاب، وقرأ أبو العالية «رجس» بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر، وقرأ ابن محيصن «رجز» بضم الراء، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بجزم الباء، وليربط على قلوبكم أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم: رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب ويثبّت به الأقدام أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فيها صعبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء، فقال له حباب: أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا أحد ما يحتمله قوله ويثبّت به الأقدام والضمير في به على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في به على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ما» ساكنة الألف ليطهّركم به قال: وهي بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب «ليطهركم به» بسكون الطاء). [المحرر الوجيز: 4/ 144-148]