تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {من حليهم عجلا جسدا}، قال: استعاروا حليا من آل فرعون فجمعه السامري فصاغ منه عجلا فجعله الله جسدا لحما ودما له خوار). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 236]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً جسدًا له خوارٌ ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً اتّخذوه وكانوا ظالمين}.
يقول تعالى ذكره: واتّخذ بنو إسرائيل قوم موسى من بعد ما فارقهم موسى ماضيًا إلى ربّه؛ لمناجاته ووفاءً للوعد الّذي كان ربّه وعده من حليّهم عجلاً وهو ولد البقرة، فعبدوه. ثمّ بيّن تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال: {جسدًا له خوارٌ} والخوار: صوت البقر.
يخبر جلّ ذكره عنهم أنّهم ضلّوا بما لا يضلّ بمثله أهل العقل، وذلك أنّ الرّبّ جلّ جلاله الّذي له ملك السّموات والأرض ومدبّر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدًا له خوارٌ، لا يكلّم أحدًا ولا يرشد إلى خيرٍ. وقال هؤلاء الّذين قصّ اللّه قصصهم لذلك هذا إلهنا وإله موسى، فعكفوا عليه يعبدونه جهلاً منهم وذهابًا عن اللّه وضلالاً.
وقد بيّنّا سبب عبادتهم إيّاه وكيف كان اتّخاذ من اتّخذ منهم العجل فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وفي الحليّ لغتان: ضمّ الحاء وهو الأصل، وكسرها، وكذلك ذلك في كلّ ما شاكله من مثل صليٍّ وجثيٍّ وعتيٍّ. وبأيّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصّواب، لاستفاضة القراءة بهما في القراءة، ولاتّفاق معنييهما.
وقوله: {ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً}، يقول: ألم ير الّذين عكفوا على العجل الّذي اتّخذوه من حليّهم يعبدونه أنّ العجل، {لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً} يقول: ولا يرشدهم إلى طريقٍ. وليس ذلك من صفة ربّهم الّذي له العبادة حقًّا، بل صفته أنّه يكلّم أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير وينهاهم عن سبيل المهالك والرّدى. يقول اللّه جلّ ثناؤه: {اتّخذوه} أي: اتّخذوا العجل إلاهًا. {وكانوا} باتّخاذهم إيّاه ربًّا معبودًا {ظالمين} لأنفسهم، لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الّذي له الألوهة.
وقد بيّنّا معنى الظّلم فيما مضى بما أغنى عن إعادته). [جامع البيان: 10/ 446-447]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلًا جسدًا له خوارٌ ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلًا اتّخذوه وكانوا ظالمين (148)}
قوله تعالى: {واتّخذ قوم موسى من بعده من حليهم}
- حدّثنا عمّار بن خالدٍ الواسطيّ، ثنا محمّد بن الحسن ويزيد بن هارون واللّفظ لمحمّدٍ، عن أصبغ بن يزيد الورّاق، عن القاسم بن أبي أيّوب، حدّثني سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: وكان هارون قد خطبهم فقال: إنّكم خرجتم من مصر وعندكم ودائعٌ لقوم فرعون، وعواري، ولكم فيهم مثل ذلك وإنى أرى أن تحبسوا ما لهم عندكم ولا أحلّ لكم وديعةً استودعتموها، أو عاريةً فلسنا برادّي شيئًا من ذلك إليهم، ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرًا فأمر كلّ قومٍ عندهم شيءٌ من ذلك من متاعٍ أو حليةٍ أن يقذفوه في تلك الحفرة، ثمّ أوقد عليه النّار فحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السّامريّ رجلاً من قومٍ يعبدون البقر جيران لهم ليس من بني إسرائيل، فاحتمل مع بني إسرائيل، حين احتملوا، فقضى له أنّه رأى أثرًا فأخذ منه قبضةً فمرّ بهارون فقال له هارون: يا سامريّ ألا تلقي ما في يدك وهو قابضٌ عليه لا يراه أحدٌ طوال ذلك، فقال: هذه قبضةٌ من أثر الرّسول الّذي جاوز بكم البحر فلا ألقيها لشيءٍ إلا أن تدعوا اللّه إذا ألقيتها أن تكون ما أريد، قال: فألقها ودعا له هارون فقال أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاعٍ ونحاسٍ أو حليٍّ أو حديدٍ فصار عجلاً أجوف ليس فيه روحٌ وله خوارٌ.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قال: وكان السّامريّ قد أبصر جبريل عليه السّلام على فرسٍ وأخذ من أثر الفرس قبضةً من ترابٍ، فقال حين مضى ثلاثون ليلةً يا بني إسرائيل: إنّ معكم حليًّا من حليّ آل فرعون، وهذا حرامٌ عليكم، فهاتوا ما عندكم نحرقها فأتوه ما كان عندهم، فأوقدوا نارًا فألقى الحليّ في النّار، فلمّا ذاب الحليّ ألقى تلك القبضة من ترابٍ في النّار فصار عجلًا له جسدًا له خوارٌ فخار خواره لم يثنّي.
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن عبد الأعلى، ثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة من حليّهم عجلاً قال: استعاروا حليًّا من آل فرعون فجمعه السّامريّ فصاغ منه عجلاً فجعله اللّه جسدًا لحمًا ودمًا له خوارٌ.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قال: موسى: يا ربّ هذا السّامريّ أمرهم أن يتخذوا العجل أرأيت الرّوح من نفخها فيه قال الرّبّ: أنا، قال ربّ: فأنت إذًا أضللتهم.
قوله: {له خوارٌ}
- حدّثنا عمّار بن خالدٍ، ثنا محمّد بن الحسن، ويزيد بن هارون واللّفظ لمحمّدٍ، عن أصبغ بن زيدٍ الورّاق، عن القاسم بن أبي أيّوب، حدّثني سعيد بن جبيرٍ له خوارٌ قال: واللّه ما كان له صوتٌ قطّ ولكن الرّيح كانت تدخل في دبره وتخرج من فيه فكان ذلك الصّوت من ذلك.
- حدّثنا ابن أبي الثّلج، ثنا يزيد بن هارون أنبأ حمّاد بن سلمة، عن فرقدٍ السّخيّ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤسهم.
قوله تعالى: {ألم يروا أنّه لا يكلّمهم}
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن أبي الثّلج، ثنا يزيد أنبأ جويبرٌ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ، قال: في العجل: خار خورةً لم يثن، ألم تر أنّ اللّه قال: ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يرجع إليهم قولاً). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1567-1569]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم يعني حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام فصارت عجلا جسدا له خوار).[تفسير مجاهد: 246]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثني عمر بن محمّد بن صفوان الجمحيّ، بمكّة في دار أبي بكرٍ الصّدّيق رضي اللّه عنه، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا حجّاج بن منهالٍ، ثنا حمّاد بن سلمة، أنبأ سماك بن حربٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: أتى هارون على السّامريّ وهو يصنع العجل، فقال له: ما تصنع؟ قال: ما ينفع ولا يضرّ فقال: اللّهمّ أعطه ما سألك في نفسه فلمّا ذهب قال: «اللّهمّ إنّي أسألك أن يخور فخار، وكان إذا سجد خار، وإذا رفع رأسه خار، وذلك بدعوة هارون» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/ 351]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أحمد بن منيعٍ: ثنا يزيد، أبنا حسين بن سعيدٍ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ "قال في العجل: خوار خوره لم يثنّ ألم تر أنّ اللّه- عزّ وجلّ- قال: ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً ولا يرجع إليهم قولاً"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 210]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذرعن مجاهد في قوله: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا} قال: حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام.
- وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {من حليهم عجلا جسدا له خوار} قال: استعاروا حليا من آل فرعون فجمعه السامري فصاغ منه عجلا فجعله الله جسدا لحما ودما له خوار.
- وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {عجلا جسدا له خوار} قال: يعني له صياح، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الشاعر وهو يقول:
كان بني معاوية بن بكر ....... إلى الإسلام ضاحية تخور.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يثن ألم تر أن الله قال: {ألم يروا أنه لا يكلمهم}.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {له خوار} قال: الصوت). [الدر المنثور: 6/ 591-592]
تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (قال ابن عبّاسٍ: ... {سقط} : «كلّ من ندم فقد سقط في يده). [صحيح البخاري: 6/ 58-59]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله: {سقط}؛ كلّ من ندم فقد سقط في يده قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ولمّا سقط في أيديهم} يقال: لكلّ من ندم وعجز عن شيءٍ سقط في يد فلانٍ وقد تقدّم في أحاديث الأنبياء). [فتح الباري: 8/ 300]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({سقط}؛ كلّ من ندم فقد سقط في يده.
أشار به إلى قوله تعالى: {ولما سقط في أيديهم} وفسّر قوله: {سقط} بقوله: (كل من ندم فقد سقط في يده) وقال الجوهري: وسقط في يديه أي: ندم: قال الله تعالى: {ولما سقط في أيديهم} ، قال الأخفش: وقرأ بعضهم سقط كأنّه أضمر النّدم وجوز أسقط في يديه، وقال أبو عمر: ولا يقال أسقط بالألف على ما لم يسم فاعله، وهذه في قصّة قوم موسى الّذين اتّخذوا من حليهم عجلاً وأخبر الله تعالى عنهم: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا} الآية أراد أنهم ندموا على ما فعلوا {ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: لئن لم يرحمنا ربنا} الآية). [عمدة القاري: 18/ 236]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولمّا سقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ولمّا سقط في أيديهم} ولمّا ندم الّذين عبدوا العجل الّذي وصف جلّ ثناؤه صفته عند رجوع موسى إليهم، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم.
وكذلك تقول العرب لكلّ نادمٍ على أمرٍ فات منه أو سلف وعاجزٌ عن شيءٍ: قد سقط في يديه، وأسقط لغتان فصيحتان، وأصله من الاستئسار، وذلك أن يضرب الرّجل الرّجل أو يصرعه، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتّفه، فالمرميّ به مسقوطٌ في يدي السّاقط به، فقيل لكلّ عاجزٍ عن شيءٍ ومصارعٍ لعجزه متندّمٍ على ما فاته: سقط في يديه وأسقط.
وعنى بقوله: {ورأوا أنّهم قد ضلّوا} ورأوا أنّهم قد جاروا عن قصد السّبيل وذهبوا عن دين اللّه، وكفروا بربّهم، قالوا تائبين إلى اللّه منيبين إليه من كفرهم به: {لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين}.
ثمّ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء أهل المدينة ومكّة والكوفة والبصرة: لئن لم يرحمنا ربّنا بالرّفع على وجه الخبر.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: (لئن لم ترحمنا ربّنا) بالنّصب بتأويل لئن لم ترحمنا يا ربّنا، على وجه الخطّاب منهم لربّهم. واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنّه في إحدى القراءتين: (قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا وتغفر لنا) وذلك دليلٌ على الخطّاب.
والّذي هو أولى بالصّواب من القراءة في ذلك القراءة على وجه الخبر بالياء في {يرحمنا} وبالرّفع في قوله: {ربّنا}؛ لأنّه لم يتقدّم ذلك ما يوجب أن يكون موجّهًا إلى الخطّاب. والقراءة الّتي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها: (قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا) لا نعرف صحّتها من الوجه الّذي يجب التّسليم إليه.
ومعنى قوله: {لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا} لئن لم يتعطّف علينا ربّنا بالتّوبة برحمته، ويتغمّد بها ذنوبنا، لنكوننّ من الهالكين الّذين حبطت أعمالهم). [جامع البيان: 10/ 448-449]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولمّا سقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين (149)}
قوله تعالى: {ولمّا سقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلوا}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قال: فلمّا أسقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى عليه السّلام، ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا: لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين، فأبى اللّه عزّ وجلّ أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال الّتي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1569]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ولما سقط في أيديهم} قال: ندموا). [الدر المنثور: 6/ 592]
تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم}.
يقول تعالى ذكره: ولمّا رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفًا؛ لأنّ اللّه كان قد أخبره أنّه قد فتن قومه، وأنّ السّامريّ قد أضلّهم، فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك.
والأسف: شدّة الغضب والتّغيّظ به على من أغضبه.
- كما حدّثني عمران بن بكّارٍ الكلاعيّ، قال: حدّثنا عبد السّلام بن محمّدٍ الحضرميّ، قال: حدّثني شريح بن يزيد، قال: سمعت نصر بن علقمة، يقول: قال أبو الدّرداء: قول اللّه: {غضبان أسفًا} قال: الأسف: منزلةٌ وراء الغضب أشدّ من ذلك، وتفسير ذلك في كتاب اللّه: ذهب إلى قومه غضبان، وذهب أسفًا.
وقال آخرون في ذلك ما:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، {أسفًا} قال: حزينًا.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} يقول: أسفًا حزينًا وقال في الزّخرف {فلمّا آسفونا} يقول: أغضبونا. والأسف على وجهين: الغضب والحزن.
- حدّثنا نصر بن عليٍّ، قال: حدّثنا سليمان بن سليمان، قال: حدّثنا مالك بن دينارٍ، قال: سمعت الحسن، يقول في قوله: ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال: غضبان حزينًا.
وقوله: {قال بئسما خلفتموني من بعدي} يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إيّاكم وأوليتموني فيمن خلّفت من ورائي من قومي فيكم وديني الّذي أمركم به ربّكم. يقال منه: خلفه بخيرٍ وخلفه بشرٍ إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيلٍ من بعد شخوصه عنهم خيرًا أو شرًّا.
وقوله: {أعجلتم أمر ربّكم} يقول: أسبقتم أمر ربّكم في نفوسكم، وذهبتم عنه؟ يقال منه: عجل فلانٌ هذا الأمر: إذا سبقه، وعجل فلانٌ فلانًا إذا سبقه، ولا تعجلني يا فلان لا تذهب عنّي وتدعني، وأعجلته: استحثثته.
القول في تأويل قوله تعالى: {وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}.
يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح.
ثمّ اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إيّاها، فقال بعضهم: ألقاها غضبًا على قومه الّذين عبدوا العجل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيدٍ، عن القاسم بن أبي أيّوب، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب.
- وحدّثني عبد الكريم، قال: حدّثنا إبراهيم بن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن عيينة، قال: قال أبو سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: لمّا رجع موسى إلى قومه، وكان قريبًا منهم، سمع أصواتهم فقال: إنّي لأسمع أصوات قومٍ لاهين. فلمّا عاينهم وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.
- حدّثنا موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: أخذ موسى الألواح ثمّ رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فقال: {يا قوم ألم يعدكم ربّكم وعدًا حسنًا} إلى قوله: {فكذلك ألقى السّامريّ} {وألقى} موسى {الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي}.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قالا: لمّا انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثمّ أخذ برأس أخيه ولحيته يقول: {ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري}.
وقال آخرون: إنّما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتدّ ذلك عليه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {أخذ الألواح} قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً، خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً هم الآخرون السّابقون: أي: آخرون في الخلق، سابقون في دخول الجنّة، ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرًا حتّى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا ولم يعرفوه - قال قتادة: وإنّ اللّه أعطاكم أيّتها الأمّة من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم - قال: ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً يؤمنون بالكتاب الأوّل وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضّلالة حتّى يقاتلوا الأعور الكذّاب، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ثمّ يؤجرون عليها، وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدّق بصدقةٍ فقبلت منه، بعث اللّه عليها نارًا فأكلتها، وإن ردّت عليه تركت تأكلها الطّير والسّباع، قال: وإنّ اللّه أخذ صدقاتكم من غنيّكم لفقيركم، قال: ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً إذا همّ أحدهم بحسنةٍ ثمّ لم يعملها كتبت له حسنةً، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائةٍ، ربّ اجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً إذا همّ أحدهم بسيّئةٍ لم تكتب عليه حتّى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيّئةً واحدةً، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً هم المشفّعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه موسى عليه السّلام نبذ الألواح وقال: اللّهمّ اجعلني من أمّة أحمد، قال: فأعطي نبيّ اللّه موسى عليه السّلام ثنتين لم يعطهما نبيّ، قال اللّه: {يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} قال: فرضي نبيّ اللّه. ثمّ أعطي الثّانية: {ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ وبه يعدلون} قال: فرضي نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلّ الرّضا.
- حدّثني محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، قال: لمّا أخذ موسى الألواح، قال: يا ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً هم خير الأمم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد. قال: يا ربّ إنّي أجد في الألواح أمّةً هم الآخرون السّابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمّتي، قال: تلك أمّة أحمد، ثمّ ذكر نحو حديث بشر بن معاذٍ، إلاّ أنّه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السّلام الألواح وقال: اللّهمّ اجعلني من أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
والّذي هو أولى بالصّواب من القول في ذلك أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه بذلك أخبر في كتابه، فقال: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه}.
وذلك أنّ اللّه لمّا كتب لموسى عليه السّلام في الألواح التّوراة، أدناه منه حتّى سمع صريف القلم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي عمارة، عن عليٍّ، عليه السّلام قال: كتب اللّه الألواح لموسى عليه السّلام وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا إسرائيل، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: أدناه حتّى سمع صريف الأقلام.
وقيل: إنّ التّوراة كانت سبعة أسباعٍ فلمّا ألقى موسى الألواح تكسّرت، فرفع منها ستّة أسباعها، وكان فيما رفع تفصيل كلّ شيءٍ الّذي قال اللّه: {وكتبنا له في الألواح من كلّ شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكلّ شيءٍ} وبقي الهدى والرّحمة في السّبع الباقي، وهو الّذي قال اللّه: {أخذ الألواح وفي نسختها هدًى ورحمةٌ للّذين هم لربّهم يرهبون} وكانت التّوراة فيما ذكر سبعين وقر بعيرٍ يقرأ منها الجزء في سنةٍ.
- كما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن خالدٍ المكفوف، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: أنزلت التّوراة وهي سبعون وقر بعيرٍ، يقرأ منها الجزء في سنةٍ، لم يقرأها إلاّ أربعة نفرٍ: موسى بن عمران، وعيسى، وعزيرٌ، ويوشع بن نونٍ.
واختلفوا في الألواح، فقال بعضهم: كانت من زمرّدٍ أخضر. وقال بعضهم: كانت من ياقوتٍ. وقال بعضهم: كانت من بردٍ.
ذكر الرّواية بما ذكرنا من ذلك:
- حدّثني أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ، قال: حدّثنا حجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني يعلى بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: ألقى موسى الألواح فتكسّرت، فرفعت إلاّ سدسها.
قال ابن جريجٍ: وأخبرني أنّ الألواح من زبرجدٍ وزمرّدٍ من الجنّة.
- وحدّثني موسى بن سهلٍ الرّمليّ، وعليّ بن داود، وعبد اللّه بن أحمد بن شبّويه، وأحمد بن الحسن التّرمذيّ، قالوا: أخبرنا آدم العسقلانيّ، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: كانت ألواح موسى عليه السّلام من بردٍ.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة، قال: سألت سعيد بن جبيرٍ عن الألواح، من أيّ شيءٍ كانت؟ قال: كانت من ياقوتةٍ، كتابة الذّهب، كتبها الرّحمن بيده، فسمع أهل السّموات صريف القلم وهو يكتبها.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، عن محمّد بن أبي الوضّاح، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، أو سعيد بن جبيرٍ قال: كانت الألواح زمرّدًا، فلمّا ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرّحمة، وذهب التّفصيل.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الأشجعيّ، عن محمّد بن مسلمٍ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: كانت الألواح من زمرّدٍ أخضر.
وزعم بعضهم أنّ الألواح كانت لوحين، فإن كان الّذي قال كما قال، فإنّه قيل: {وكتبنا له في الألواح} وهما لوحان، كما قيل: {فإن كان له إخوةً} وهما أخوان.
وأمّا قوله: {وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه} فإنّ ذلك من فعل نبيّ اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- كان لموجدته على أخيه هارون في تركه اتّباعه وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الّذي تركهم فيه، كما قال جلّ ثناؤه مخبرًا عن قيل موسى عليه السّلام له: {ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعني أفعصيت أمري} حين أخبره هارون بعذره، فقبل عذره، وذلك قيله لموسى: {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} وقال: {يا ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} الآية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله {يا ابن أمّ} فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة وبعض أهل البصرة: {يا ابن أمّ} بفتح الميم من الأمّ.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة: (يا ابن أمّ) بكسر الميم من الأمّ.
واختلف أهل العربيّة في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنّهما لغتان مستعملتان في العرب. فقال بعض نحويّي البصرة: قيل ذلك بالفتح على أنّهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا، كما قيل: يا ابن عمّ، وقال: هذا شاذٌّ لا يقاس عليه، وقال: من قرأ ذلك: (يا ابن أمّ) فهو على لغة الّذين يقولون: هذا غلام قد جاء، جعله اسمًا واحدًا آخره مكسورٌ، مثل قوله خاز باز.
وقال بعض نحويّي الكوفة: قيل: يا ابن أمّ ويا ابن عمّ، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات، فيقال: يا حسرتا، يا ويلتا، قال: فكأنّهم قالوا: يا أمّاه ويا عمّاه ولم يقولوا ذلك في أخٍ، ولو قيل ذلك لكان صوابًا. قال: والّذين خفضوا ذلك فإنّه كثر في كلامهم حتّى حذفوا الياء. قال: ولا تكاد العرب تحذف الياء إلاّ من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه، إلاّ قولهم: يا ابن أمّ، ويا ابن عمّ وذلك أنّهما يكثر استعمالهما في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء، فقالوا: يا ابن أبي، ويا ابن أختي وأخي، ويا ابن خالتي، ويا ابن خالي.
والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت الميم من {ابن أمّ}، فمرادٌ به النّدبة: يا ابن أمّاه، وكذلك من ابن عمّ فإذا كسرت فمرادٌ به الإضافة، ثمّ حذفت الياء الّتي هي كناية اسم المخبر عن نفسه، وكأنّ بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر، ككسر الزّاي من خاز باز؛ لأنّ خاز باز لا يعرف الثّاني إلاّ بالأوّل ولا الأوّل إلاّ بالثّاني، فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس النّحويّ تأنيث أمّ وتأنيث عمّ، وقال: لا يجعل اسمًا واحدًا إلاّ مع ابن المذكّر. قالوا: وأمّا اللّغة الجيّدة والقياس الصّحيح فلغة من قال: يا ابن أمّي بإثبات الياء، كما قال أبو زبيدٍ:
يا ابن أمّي ويا شقيّق نفسي ....... أنت خلّفتني لدهرٍ شديد
وكما قال الآخر:
يا ابن أمّي ولو شهدتك إذ تد ....... عو تميمًا وأنت غير مجاب
وإنّما أثبت هؤلاء الياء في الأمّ؛ لأنّها غير مناداةٍ، وإنّما المنادى هو الابن دونها، وإنّما تسقط العرب الياء من المنادى إذا أضافته إلى نفسها، لا إذا أضافته إلى غير نفسها، كما قد بيّنّا.
وقيل: إنّ هارون إنّما قال لموسى عليه السّلام: {يا ابن أمّ}، ولم يقل: يا ابن أبي، وهما لأبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ، استعطافًا له على نفسه برحم الأمّ.
وقوله: {إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} يعني بالقوم الّذين عكفوا على عبادة العجل، وقالوا هذا إلهنا وإله موسى، وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إيّاه، تركهم طاعته واتّباع أمره. {وكادوا يقتلونني} يقول: قاربوا ولم يفعلوا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {فلا تشمت} فقرأ قرّاء الأمصار ذلك: {فلا تشمت بي الأعداء} بضمّ التّاء من تشمت وكسر الميم منها، من قولهم: أشمت فلانٌ فلانًا بفلانٍ، إذا سرّه فيه بما يكرهه المشمت به.
وروي عن مجاهدٍ أنّه قرأ ذلك: {فلا تشمت بي الأعداء}.
- حدّثني بذلك عبد الكريم، قال: حدّثنا إبراهيم بن بشّارٍ، قال: حدّثنا سفيان، قال: قال حميد بن قيسٍ، قرأ مجاهدٌ: (فلا تشمت بي الأعداء).
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن الزّبير، عن ابن عيينة، عن حميدٍ، قال: قرأ مجاهدٌ: (فلا تشمت بي الأعداء).
- حدّثت عن يحيى بن زيادٍ الفرّاء، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ أنّه قال: (فلا تشمت).
وقال الفرّاء: قال الكسائيّ: ما أدري، فلعلّهم أرادوا: {فلا تشمت بي الأعداء} فإن تكن صحيحةً فلها نظائر. العرب تقول: فرغت وفرغت، فمن قال: فرغت قال: أنا أفرغ، ومن قال: فرغت قال: أنا أفرغ، وكذلك ركبت وركبت وشملهم أمرٌ وشملهم، في كثيرٍ من الكلام. قال: والأعداء رفعٌ؛ لأنّ الفعل لهم لمن قال تشمت أو تشمت.
والقراءة الّتي لا أستجيز القراءة إلاّ بها قراءة من قرأ: {فلا تشمت} بضمّ التّاء الأولى وكسر الميم من أشمتّ به عدوّه أشمّته به، ونصب الأعداء لإجماع الحجّة من قرّاء الأمصار عليها وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهدًا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامّة أهل العلم بكلام العرب: شمّت فلانٌ فلانًا بفلانٍ، وشمت فلانٌ بفلانٍ يشمت به، وإنّما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرّجل بعدوّه شمت به بكسر الميم يشمت به بفتحها في الاستقبال.
وأمّا قوله: {ولا تجعلني مع القوم الظّالمين} فإنّه قول هارون لأخيه موسى، يقول: لا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك محلّ من عصاك فخالف أمرك وعبد العجل بعدك فظلم نفسه وعبد غير من له العبادة، ولم أشايعهم على شيءٍ من ذلك.
- كما حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ولا تجعلني مع القوم الظّالمين} قال: أصحاب العجل.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ. بمثله). [جامع البيان: 10/ 449-461]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظّالمين (150)}
قوله تعالى: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} يعني الغضبان الحزين.
قوله تعالى: {أسفا}
الوجه الأول:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {غضبان أسفًا} قال: حزينٌ. وروي عن الحسن ومالك بن دينارٍ مثل ذلك.
- أخبرنا محمّد بن سعيدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ حدّثني، أبي حدّثني، عمّي عن أبيه، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: {ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} يقول: أسفًا حزينًا، وفي الزّخرف فلمّا آسفونا يقول أغضبونا، والأسف على وجهين الغضب والحزن.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا يحيى بن خلفٍ، ثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ غضبان أسفًا قال: جزعًا.
قوله تعالى: {قال بئسما خلفتموني من بعدي}
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ الصّبّاح، ثنا عفّان، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم-: «يرحم اللّه موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربّه تبارك وتعالى أنّ قومه فتنوا، فلم يلق الألواح فلمّا رآهم وعاينهم ألقى الألواح».
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ، ثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ أخبرني يعلى بن مسلمٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّه لمّا ألقى موسى الألواح فتكسّرت فرفعت إلا سدسها.
قوله تعالى: {وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه}
- حدّثنا عمّار بن خالدٍ الواسطيّ، ثنا محمّد بن الحسن الواسطيّ ويزيد بن هارون واللّفظ لمحمّدٍ، عن أصبغ بن زيدٍ الورّاق، عن القاسم بن أبي أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: ف رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا فقال لهم: ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه وألقى الألواح من الغضب ثمّ إنّه عذر أخاه بعذره واستغفر له.
قوله تعالى: {ولا تجعلني مع القوم الظّالمين}
- حدّثنا حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ ولا تجعلني مع القوم الظّالمين أصحاب العجل). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1569-1570]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} قال: يعني مع أصحاب العجل).[تفسير مجاهد: 247]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني عليّ بن عبد اللّه الحكيميّ، ببغداد، ثنا العبّاس بن محمّدٍ الدّوريّ، ثنا سريج بن النّعمان، ثنا هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الخبر كالمعاينة، إنّ اللّه خبّر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/ 351]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: {أسفا} قال: حزينا.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} قال: حزينا على ما صنع قومه من بعده.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {غضبان أسفا} قال: حزينا وفي الزخرف {فلما آسفونا} [الزخرف: 55] يقول: أغضبونا، والأسف على وجهين: الغضب والحزن.
- وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أسفا} قال: جزعا.
- وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: الأسف: منزلة وراء الغضب أشد من ذلك.
- وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب قال: الأسف: الغضب الشديد.
- وأخرج أحمد، وعبد بن حميد والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان والطبراني وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيزحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر ما تكسر».
- وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: كان موسى -عليه السلام- إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا.
- وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها.
- وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كتب الله لموسى في الألواح فيها: {موعظة وتفصيلا لكل شيء} فلما ألقاها رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع يقول الله: {وفي نسختها هدى ورحمة} يقول: فيما بقي منها.
- وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني وهي الطوال وأوتي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفعت اثنتان وبقيت أربع.
- وأخرج أبو الشيخ عن الربيع في قوله: {وألقى الألواح} قال: ذكر أنه رفع من الألواح خمسة أشياء وكان لا ينبغي أن يعلمه الناس {إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] إلى آخر الآية.
- وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد وسعيد بن جبير قال: كانت الألوح من زمرد فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى
- وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: أخبرت أن ألواح موسى كانت تسعة فرفع منها لوحان وبقي سبعة.
- وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} قال: مع أصحاب العجل). [الدر المنثور: 6/ 592-595]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قال ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين}.
يقول تعالى ذكره: قال موسى لمّا تبيّن له عذر أخيه، وعلم أنّه لم يفرّط في الواجب الّذي كان عليه من أمر اللّه في ارتكاب ما فعله الجهلة من عبدة العجل: {ربّ اغفر لي} مستغفرًا من فعله بأخيه، ولأخيه من سالفٍ له بينه وبين اللّه، تغمّد ذنوبنا بسترٍ منك تسترها به. {وأدخلنا في رحمتك} يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين، فإنّك أنت أرحم بعبادك من كلّ من رحم شيئًا). [جامع البيان: 10/ 462]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({قال ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين (151)}
قوله تعالى: {قال ربّ اغفر لي ولأخي}
- حدّثنا عمّار بن خالدٍ، ثنا محمّد بن الحسن ويزيد بن هارون واللّفظ لمحمّدٍ، عن أصبغ بن زيدٍ، عن القاسم بن أبي أيّوب، حدّثني سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: يعني قوله: {قال ربّ اغفر لي ولأخي} قال: ثمّ إنّه عذر أخاه بعذره واستغفر له). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1570]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن أيوب قال تلا أبو قلابة {سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين} قال هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله تعالى). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 236]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين}.
يقول تعالى ذكره: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل} إلهًا، {سينالهم غضبٌ من ربّهم} بتعجيل اللّه لهم ذلك، {وذلّةٌ} وهي الهوان، لعقوبة اللّه إيّاهم على كفرهم بربّهم {في الحياة الدّنيا} في عاجل الدّنيا قبل آجل الآخرة.
وكان ابن جريجٍ يقول في ذلك بما:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين} قال: هذا لمن مات ممّن اتّخذ العجل قبل أن يرجع موسى -عليه السّلام-، ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضًا.
وهذا الّذي قاله ابن جريجٍ، وإن كان قولاً له وجهٌ، فإنّ ظاهر كتاب اللّه مع تأويل أكثر أهل التّأويل بخلافه وذلك أنّ اللّه عمّ بالخبر عمّن اتّخذ العجل أنّه سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا. وتظاهرت الأخبار عن أهل التّأويل من الصّحابة والتّابعين بأنّ اللّه إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السّلام، تاب على عبدة العجل من فعلهم، بما أخبر به عن قيل موسى عليه السّلام في كتابه، وذلك قوله: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} ففعلوا ما أمرهم به نبيّهم -صلّى اللّه عليه وسلّم-، فكان أمر اللّه إيّاهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفس بعضٍ، عن غضبٍ منه عليهم بعبادتهم العجل، فكان قتل بعضهم بعضًا هوانًا لهم وذلّةً أذلّهم اللّه بها في الحياة الدّنيا، وتوبةً منهم إلى اللّه قبلها. وليس لأحدٍ أن يجعل خبرًا جاء الكتاب بعمومه في خاصٍّ ممّا عمّه الظّاهر بغير برهانٍ من حجّة خبرٍ أو عقلٍ، ولا نعلم خبرًا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم} إلى باطنٍ خاصٍّ، ولا من العقل عليه دليلٌ، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه.
ويعني بقوله: {وكذلك نجزي المفترين} وكما جزيت هؤلاء الّذين اتّخذوا العجل إلهًا من إحلال الغضب بهم، والإذلال في الحياة الدّنيا على كفرهم ربّهم، وردّتهم عن دينهم بعد إيمانهم باللّه، وكذلك نجزي كلّ من افترى على اللّه فكذب عليه وأقرّ بألوهيّة غيره وعبد شيئًا سواه من الأوثان بعد إقراره بوحدانيّة اللّه، وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقيل ذلك، إذا لم يتب من كفره قبل قتله.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن أيّوب، قال: تلا أبو قلابة: {سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا} الآية، قال: فهو جزاء كلّ مفترٍ يكون إلى يوم القيامة، أن يذلّه اللّه عزّ وجلّ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو النّعمان عارمٌ، قال: حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، قال: قرأ أبو قلابة يومًا هذه الآية: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين} قال: هي واللّه لكلّ مفترٍ إلى يوم القيامة.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن ثابتٍ، وحميدٍ: أنّ قيس بن عبّادٍ، وجارية بن قدامة، دخلا على عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه، فقالا: أرأيت هذا الأمر الّذي أنت فيه وتدعو إليه، أعهدٌ عهده إليك رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- أم رأي رأيته؟ قال: ما لكما ولهذا؟ أعرضا عن هذا، فقالا: واللّه لا نعرض عنه حتّى تخبرنا. فقال: ما عهد إليّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- إلاّ كتابًا في قراب سيفي هذا. فاستلّه فأخرج الكتاب من قراب سيفه، وإذا فيه: إنّه لم يكن نبيّ إلاّ له حرمٌ، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم عليه السّلام مكّة، لا يحمل فيها السّلاح لقتالٍ، من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ فلمّا خرجا قال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الكتاب؟ فرجعا وتركاه، وقالا: إنّا سمعنا اللّه يقول: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم} الآية، وإنّ القوم قد افتروا فريةً، ولا أدري إلاّ سينزل بهم ذلّةٌ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن الزّبير، عن ابن عيينة: في قوله: {وكذلك نجزي المفترين} قال: كلّ صاحب بدعةٍ ذليلٌ). [جامع البيان: 10/ 462-465]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين (152)}
قوله تعالى: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل}
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا هشام بن عمّارٍ، ثنا صدقة بن عمرٍو الغسّانيّ، ثنا عبّاد بن ميسرة المنقريّ، عن الحسن قال: اسم عجل بني إسرائيل الّذي عبدوه يهبوث
قوله تعالى: {سينالهم غضبٌ من ربّهم}
- حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، ثنا عبد الرّزّاق ، أنبأ معمرٌ، عن أيّوب قال: كان أبو قلابة إذا قرأ هذه الآية: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا} قال أبو قلابة: فهو جزاء كلّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلّه اللّه.
- ذكر لي عبد اللّه بن أحمد الدّشتكيّ، ثنا أبي، ثنا عطّاف بن غزوان، ثنا محمّد بن مسعرٍ قال: سألت سفيان بن عيينة عن قوله: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم} قال: ختمٌ من اللّه إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: {وكذلك نجزي المفترين}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عفّان، ثنا حمّاد بن سلمة، أنبأ ثابتٌ أنّ قيس بن عبّادٍ وجارية بن قدامة قالا: إنّا سمعنا اللّه يقول في كتابه: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين} وما نرى القوم إلا قد افتروا فريةً وما أريها إلا ستصيبهم.
- حدّثنا أبي، ثنا سليمان بن حربٍ، ثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن أبي قلابة {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين} فهي واللّه لكلّ مفترٍ كذب إلى يوم القيامة- وروي عن سعيد بن جبيرٍ نحوه.
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن أبي عمر العدنيّ، قال سفيان: {وكذلك نجزي المفترين} قال: كلّ صاحب بدعةٍ ذليلٌ.
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ، ثنا الفيض بن إسحاق قال: سمعت الفضيل بن عياضٍ قال: كلّ شيءٍ في القرآن وكذلك نجزي المفترين ونحو هذا: يقول: كما أهلك الّذين من قبل فكذلك يفعل بالمفترين ونحو هذا). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1571-1572]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال إسحاق بن راهويه: أبنا عفّان، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ قال: قال عليٌّ- رضي اللّه عنه-: «إنّا سمعنا اللّه يقول: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} قال: وما نرى القوم إلّا قد افتروا فريةً ما أراها إلّا ستصيبهم ...» ذكره في أثناء حديثٍ.
- قال: وثنا عفّان، ثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب قال: "تلا أبو قلابة هذه الآية. فقال: هي واللّه لكلّ مفترٍ إلى يوم القيامة الذّلّة في الحياة الدّنيا".
هذا إسنادٌ رجاله ثقاتٌ إلّا أنّه منقطعٌ). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 210-211]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قال إسحاق: أخبرنا عفّان، ثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: إنّا سمعنا اللّه يقول: {إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا وكذلك نجزي المفترين (152) }. قال: وما نرى القوم (إلّا افتروا) فريةً ما أراها إلّا ستصيبهم. ذكره في أثناء حديثه.
- أخبرنا عفّان، ثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب قال: تلا (أبو قلابة) هذه الآية فقال: هي واللّه لكلّ مفترٍ إلى يوم القيامة، الذّلّة في الحياة الدّنيا). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/ 659]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أيوب قال: تلا أبو قلابة هذه الآية: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} قال: هو جزاء لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: {وكذلك نجزي المفترين} قال: كل صاحب بدعه ذليل.
- وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سفيان بن عيينة قال: لا تجد مبتدعا إلا وجدته ذليلا ألم تسمع إلى قول الله: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا}.
- وأخرج أبو الشيخ عن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه وهو في كتاب الله، قالوا: أين هي قال: أما سمعتم إلى قوله: {إن الذين اتخذوا العجل} الآية قال: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا اقرأ ما بعدها {وكذلك نجزي المفترين} فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة). [الدر المنثور: 6/ 595-596]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين عملوا السّيّئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ}.
وهذا خبرٌ من اللّه تعالى ذكره أنّه قابلٌ من كلّ تائبٍ إليه من ذنبٍ أتاه صغيرةً كانت معصيته أو كبيرةً، كفرًا كانت أو غير كفرٍ، كما قبل من عبدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم.
يقول جلّ ثناؤه: والّذين عملوا الأعمال السّيّئة ثمّ رجعوا إلى طلب رضا اللّه بإنابتهم إلى ما يحبّ ممّا يكره وإلى ما يرضى ممّا يسخط من بعد سيّئ أعمالهم، وصدّقوا بأنّ اللّه قابل توبة المذنبين وتائبٌ على المنيبين بإخلاص قلوبهم ويقينٍ منهم بذلك، {لغفورٌ} لهم، يقول: لساترٌ عليهم أعمالهم السّيّئة، وغير فاضحهم بها، رحيمٌ بهم، وبكلّ من كان مثلهم من التّائبين). [جامع البيان: 10/ 465]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({والّذين عملوا السّيّئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ (153)}
قوله تعالى: {والّذين عملوا السّيّئات ثمّ تابوا من بعدها}
- حدّثنا أبي، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبان أنبأ قتادة، عن عزرة، عن الحسن العرنيّ، عن علقمة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ أنّه سئل عن ذلك يعني الرّجل يزني بالمرأة ثمّ يتزوّجها فتلا هذه الآية: {والّذين عملوا السّيّئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ} فتلاها عبد اللّه عشر مرّاتٍ فلم يأمرهم ولم ينههم عنها.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ. قوله تعالى: {لغفورٌ} لمّا كان منهم في الشّرك.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عبّاس بن الوليد النّرسيّ، ثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة قوله: {لغفور} يعني الذّنوب الكثيرة، أو الكبيرة شكّ يزيد
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ عن سعيد بن جبيرٍ قوله: {رحيمٌ} قال: رحيمٌ بهم بعد التّوبة.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عبّاس بن الوليد، ثنا يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة قوله: رحيمٌ قال: بعباده). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1572]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود، أنه سئل عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}). [الدر المنثور: 6/ 596]
تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} قال: أي رب إني أجد في الألواح أمة هي خير الأمم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال أي رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون
السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال أي رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم حكمتهم في صدورهم وكانوا يقرؤون نظرا فاجعلهم أمتي قال تك أمة أحمد قال أي رب إني أجد في الألواح أمة يأخذون صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 236-237]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدًى ورحمةٌ لّلّذين هم لربّهم يرهبون}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ولمّا سكت عن موسى الغضب} ولمّا كفّ موسى عن الغضب، وكذلك كلّ كافٍّ عن شيءٍ ساكتٌ عنه. وإنّما قيل للسّاكت عن الكلام ساكتٌ؛ لكفّه عنه.
وقد ذكر عن يونس النّحويّ أنّه قال: يقال سكت عنه الحزن وكلّ شيءٍ فيما زعم ومنه قول أبي النّجم:
وهمّت الأفعى بأن تسيحا ....... وسكت المكّاء أن يصيحا
{أخذ الألواح} يقول: أخذها بعد ما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب. {وفي نسختها هدًى ورحمةٌ} يقول: وفيما نسخ فيها: أي: منها هدًى بيانٌ للحقّ ورحمةٌ. {للّذين هم لربّهم يرهبون} يقول: للّذين يخافون اللّه، ويخشون عقابه على معاصيه.
واختلف أهل العربيّة في وجه دخول اللاّم في قوله: {لربّهم يرهبون} مع استقباح العرب أن يقال في الكلام: رهبت لك: بمعنى رهبتك، وأكرمت لك: بمعنى أكرمتك، فقال بعضهم: ذلك كما قال جلّ ثناؤه: {إن كنتم للرّؤيا تعبرون} أوصل الفعل باللاّم.
وقال بعضهم: من أجل ربّهم يرهبون.
وقال بعضهم: إنّما دخلت عقب الإضافة الّذين هم راهبون لربّهم وراهبو ربّهم ثمّ أدخلت اللاّم على هذا المعنى؛ لأنّها عقيب الإضافة لا على التّعليق.
وقال بعضهم: إنّما فعل ذلك؛ لأنّ الاسم تقدّم الفعل، فحسن إدخال اللاّم.
قال: وقد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: {ردف لكم بعض الّذي تستعجلون}.
وذكر عن عيسى بن عمر، أنّه قال: سمعت الفرزدق يقول: نقدت له مائة درهمٍ، يريد نقدته مائة درهمٍ. قال: والكلام واسعٌ). [جامع البيان: 10/ 466-467]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدًى ورحمةٌ للّذين هم لربّهم يرهبون (154)}
قوله تعالى: {ولمّا سكت عن موسى الغضب}
- حدّثنا أبو سعيدٍ يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا يونس بن بكيرٍ، حدّثني محمّد بن إسحاق، حدّثني صدقة بن يسارٍ، حدّثني سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولمّا سكت عن موسى الغضب} قال: فلمّا ذهب عن موسى الغضب فذلك قول اللّه: أخذ الألواح وفي نسختها هدًى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون
قوله تعالى: {وفي نسختها هدًى ورحمةٌ}
- وبه إلى ابن عبّاسٍ قال: أعطى اللّه موسى التّوراة في سبعة ألواحٍ من زبرجد فيها تبيانٌ لكلّ شيءٍ وموعظة التّوراة مكتوبةً، فلمّا جاء بها فرأى بني إسرائيل عكفوا على العجل، رمى التّوراة من يده فتحطّمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه فرفع اللّه منها ستّة أسباعٍ وبقي سبعٌ فلمّا ذهب عن موسى الغضب فذلك قول اللّه: {أخذ الألواح وفي نسختها هدًى ورحمةٌ للّذين هم لربّهم يرهبون} قال: فيما بقي منها.
قوله تعالى {لربّهم يرهبون}
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ، ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول في قول اللّه: {للّذين هم لربّهم يرهبون} قال: يخافون ويتّقون). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1572-1573]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أعطى الله موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة التوراة مكتوبة فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفا على العجل فرمى التوراة من يده فتحطمت وأقبل على هرون فأخذ برأسه فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} قال: فما بقي منها.
- وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر عن مجاهد، إن سعيد بن جبير قال: كانت الألواح من زمرد فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى والرحمة وقرأ {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء} وقرأ (ولما ذهب عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة قال: ولم يذكر التفصيل ههنا.
- أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (واختار موسى قومه) الآية قال: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطينا ما لم تعطه أحدا من قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا . فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل (إن هي إلا فتنتك) يقول: إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء.
- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} قال: اختارهم ليقوموا مع هرون على قومه بأمر الله {فلما أخذتهم الرجفة} تناولتهم الصاعقة حين أخذت قومهم.
- وأخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة} بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي قال: فلم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف فأخذتهم الرجفة فماتوا ثم أحياهم الله.
- وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى بن أخي الرقاشي، إن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى: ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة فإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فلما أن أبوا إلا ذلك أوحى الله إلى موسى: أن اختر من قومك سبعين رجلا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا خيرة ثم قال لهم: اخرجوا، فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به فأخذتهم الرجفة قالوا: يا موسى ردنا، فقال لهم موسى: ليس لي من الأمر شيء سألتم شيئا فجاءكم فماتوا جميعا قيل: يا موسى ارجع، قال: رب إلى أين الرجعة {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} إلى قوله: {فسأكتبها للذين يتقون} الآية، قال عكرمة، كتبت الرحمة يومئذ لهذه الأمة.
- وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت، وابن جرير ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي -رضي الله عنه- قال: «لما حضر أجل هرون أوحى الله إلى موسى: أن انطلق أنت وهرون، وابن هرون إلى غار في الجبل فأنا قابض روحه فانطلق موسى وهرون، وابن هرون فلما انتهوا إلى الغار دخلوا فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هرون فاضطجع هرون فقبض روحه فرجع موسى، وابن هرون إلى بني إسرائيل حزينين، فقالوا له: أين هرون قال: مات، قالوا: بل قتلته كنت تعلم أنا نحبه، فقال لهم موسى: ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني قالوا له: بلى قتلته حسدتناه، قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق موسى، وابن هرون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هرون من قتلك قال: لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا: ما تقضي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء، قال: فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى يدعوا ربه {لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأحياهم الله فرجعوا إلى قومهم أنبياء»). [الدر المنثور: 6/ 596-599]