تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وجاء السّحرة ... الآية}، هنا محذوفات يقتضيها ظاهر الكلام وهي أنه بعث إلى السحرة وأمرهم بالمجيء، وقال ابن عباس أنه بعث غلمانا فعلموا بالفرما وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص «أن لنا لأجرا» على جهة الخبر، وقرأوا في الشعراء إنّ لنا ممدودة مفتوحة الألف غير عاصم فإنه لا يمدها، قال أبو علي ويجوز أن تكون على جهة الاستفهام وحذف ألفها، وقد قيل ذلك في قوله: {أن عبّدت بني إسرائيل} [الشعراء: 22] ومنه قول الشاعر: [حضرمي بن عامر].
أفرح أن أرزأ الكرام ... ... ....... ... ... ... ...
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي الشعراء «آإن» بألف الاستفهام قبل «إن»، وقرأت فرقة «أئن» دون مد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي الشعراء «أين»، والأجر هنا الاجرة فاقترحوها إن غلبوا فأنعم فرعون لهم بها وزادهم المنزلة والجاه، ومعناه المقربين مني، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفا قاله ابن إسحاق، وقال ابن جريج كانوا تسعمائة، وذكر النقاش أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلا، وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا قال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفا، وقال السدي مائتي ألف ونيفا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه الأقوال ليس لها سند يوقف عنده، وقال كعب الأحبار: اثني عشر ألفا، وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا، وقال أبو ثمامة: كانوا سبعة عشر ألفا). [المحرر الوجيز: 4/ 18-19]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) }
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قالوا يا موسى إمّا أن تلقي ... الآية}، أن في قوله إمّا أن في موضع نصب أي إما أن تفعل الإلقاء، ويحتمل أن تكون في موضع رفع أي إما هو الإلقاء، وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحج، لأن بدليتهما تمضي بالنفس، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه ووثق بالحق فأعطاهم التقدم فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم). [المحرر الوجيز: 4/ 19]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {سحروا أعين النّاس} نص في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزيق والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم واسترهبوهم بمعنى أرهبوهم أي فزعوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس، ووصف الله سحرهم بالعظم، ومعنى ذلك من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرا موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضا، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم، قال الزجاج: قيل إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر). [المحرر الوجيز: 4/ 19]
تفسير قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون (118) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقي السّحرة ساجدين (120) قالوا آمنّا بربّ العالمين (121) ربّ موسى وهارون (122) قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إنّ هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون (123) لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلافٍ ثمّ لأصلّبنّكم أجمعين (124)}
أن في موضع نصب ب أوحينا أي بأن ألق، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب، وروي أن موسى لما كان يوم الجمع خرج متكئا على عصاه ويده في يد أخيه وقد صف له السحرة في عدد عظيم حسبما ذكر، فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه، فألقى فإذا هي ثعبان مبين، فعظم حتى كان كالجبل، وقيل إنه طال حتى جاز النيل، وقيل كان الجمع بالإسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة، وقيل كان الجمع بمصر وإنه طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول بعيد من الصواب مفرط الإغراق لا ينبغي أن يلتفت إليه، وروي أن السحرة لما ألقوا وألقى موسى عصاه جعلوا يرقون وجعلت حبالهم وعصيهم تعظم وجعلت عصى موسى تعظم حتى سدت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد ذلك عصا فعندها آمن السحرة، وروي أن عصا موسى كانت عصا آدم عليها السلام وكانت من الجنة، وقيل كانت من العين الذي في وسط ورق الريحان، وقيل كانت غصنا من الخبيز أو قيل كانت لها شعبتان وقيل كانت عصا الأنبياء مختزنة عند شعيب فلما استرعى موسى قال له اذهب فخذ عصا فذهب إلى البيت فطارت هذه إلى يده فأمره شعيب بردها وأخذ غيرها ففعل فطارت هي إلى يده فأخبر بذلك شعيبا وتركها له، وقال ابن عباس: إن ملكا من الملائكة دفع العصا إلى موسى في طريق مدين، وتلقف معناه تبتلع وتزدرد، وما يأفكون معناه: ما صوروا فيه إفكهم وكذبهم، وقرأ جمهور الناس «تلقف»، وقرأ عاصم في رواية حفص «تلقف» بسكون اللام وفتح القاف، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه «هي تلقف» بتشديد التاء على إدغام التاء من تتلقف، وهذه القراءة لا تترتب إلا في الوصول، وأما في الابتداء في الفعل فلا يمكن، وقرأ سعيد بن جبير «تلقم» بالميم أي تبتلع كاللقمة، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصي أكلا وأعدمها الله عز وجل، ومد موسى يده إلى فمه فعاد عصا كما كان، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجدا مؤمنين بالله ورسوله). [المحرر الوجيز: 4/ 20-21]
تفسير قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فوقع الحقّ ... الآية}، «وقع» معناه نزل ووجد، والحقّ يريد به سطوع البرهان وظهور الإعجاز واستمر التحدي إلى الدين على جميع العالم، وما كانوا يعملون لفظ يعم سحر السحرة وسعي فرعون وشيعته). [المحرر الوجيز: 4/ 21]
تفسير قوله تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والضمير في قوله: {فغلبوا} عائد على «جميعهم» من سحرة وسعي فرعون وشيعته، وفي قوله: {وانقلبوا صاغرين}؛ إن قدرنا انقلاب الجمع قبل إيمان السحرة فهم في الضمير وإن قدرناه بعد إيمانهم فليسوا في الضمير ولا لحقهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم). [المحرر الوجيز: 4/ 21]
تفسير قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وألقي السّحرة ساجدين ... الآيات}، لما رأى السحرة من عظيم القدرة وما تيقنوا به نبوة موسى آمنوا بقلوبهم وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله تعالى فخروا سجدا لله تعالى متطارحين وآمنوا نطقا بألسنتهم، وتبينهم الرب بذكر موسى وهارون زوال عن ربوبية فرعون وما كان يتوهم فيه الجهال من أنه رب الناس، وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين). [المحرر الوجيز: 4/ 21]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقول فرعون قبل أن آذن لكم دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم مفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط، وقرأ عاصم في رواية حفص عنه في كل القرآن «آمنتم» على الخبر، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «آمنتم» بهمزة ومدة على الاستفهام وكذلك في طه والشعراء، وقرأ حمزة والكسائي في الثلاثة المواضيع «أآمنتم» بهمزتين الثانية ممدودة، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ ابن كثير في رواية أبي الأخريط عنه «وآمنتم» وهي على ألف الاستفهام إلا أنه سهلها واوا فأجرى المنفصل مجرى المتصل في قولهم تودة في تؤدة، وقرأ قنبل عن القواس «وآمنتم» وهي على القراءة بالهمزتين «اآمنتم» إلا أنه سهل ألف الاستفهام واوا وترك ألف أفعلتم على ما هي عليه، والضمير في به يحتلم أن يعود على اسم الله تعالى، ويحتمل أن يعود على موسى عليه السلام، وعنفهم فرعون على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم أن هذا كان على اتفاق منهم، وروي في ذلك عن ابن عباس وابن مسعود: أن موسى اجتمع مع رئيس السحرة واسمه شمعون فقال له موسى: أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم، فعلم بذلك فرعون، فلذلك قال إنّ هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة). [المحرر الوجيز: 4/ 22]
تفسير قوله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم قال للسحرة: {لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم ... الآية}، فرجع فرعون في مقالته هذه إلى الخذلان والغشم وعادة ملوك السوء إذا غولبوا، وقرأ حميد المكي وابن محصن ومجاهد «لأقطعن» بفتح الهمزة والطاء وإسكان القاف، «ولأصلبن» بفتح الهمزة وإسكان الصاد وضم اللام، وروي بكسرها، ومن خلافٍ معناه يمنى ويسرى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر من هذه الآيات أن فرعون توعد وليس في القرآن نص على أنه أنفذ ذلك وأوقعه، ولكنه روي أنه صلب بعضهم وقطع، قال ابن عباس: فرعون أول من صلب وقطع من خلاف، وقال ابن عباس وغيره فيهم: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وأما التوعد فلجميعهم). [المحرر الوجيز: 4/ 22]
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قالوا إنّا إلى ربّنا منقلبون (125) وما تنقم منّا إلاّ أن آمنّا بآيات ربّنا لمّا جاءتنا ربّنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين (126) وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون (127)}
هذا تسليم من مؤمني السحرة، واتكال على الله، وثقة بما عنده). [المحرر الوجيز: 4/ 23]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ جمهور الناس «تنقم» بكسر القاف، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن أبي عبلة والحسن بن أبي الحسن «تنقم» بفتحها وهما لغتان، قال أبو حاتم: الوجه في القراءة كسر القاف، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات: ما نقموا من بني أمية، بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا ذنبا وتؤاخذنا به؟ وقولهم أفرغ علينا صبراً معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه، وهي هنا مستعارة، وقال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال: مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاما أو نحوه يريهم الآيات). [المحرر الوجيز: 4/ 23]