تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّامٍ ... الآية}، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة عليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفا إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم الله» بنصب الهاء، وقوله في ستّة أيّامٍ حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة، ثم بقي دون خلق يوم السبت، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون.
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية، وقوله تعالى: استوى على العرش معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفا له إذ هو أعظم المخلوقات، وقال سفيان الثوري: فعل فعلا في العرش سماه استواء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والعرش مخلوق معين جسم ما، هذا الذي قررته الشريعة، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال: العرش مصدر عرش يعرش عرشا، والمراد بقوله استوى على العرش هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يغشّي» بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية «غشي» إلى مفعول ثان، وقرأ حميد «يغشى» بفتح الياء والشين ونصب «الليل» ورفع «النهار»، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليل» قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأبو الفتح أثبت وحثيثاً معناه سريعا، ويطلبه حثيثاً حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة، ومن النهار بحسب المعنى، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين، ويحتمل أن يكون حالا منهما، ومثله قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27] فيصح أن يكون تحمله حالا منها، وأن يكون حالا منه وأن يكون حالا منهما. ومسخّراتٍ في موضع الحال، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و (الشمس والقمر والنجوم مسخرات) بالرفع في جميعها، ونصب الباقون هذه الحروف كلها، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمس والقمر» بالنصب، و «النجوم مسخرات» بالرفع.
وألا استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأخذ المفسرون الخلق بمعنى المخلوقات. أي هي له كلها وملكه واختراعه، وأخذوا الأمر مصدرا من أمر يأمر، وعلى هذا قال النقاش وغيره: إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن تؤخذ لفظة الخلق على المصدر من خلق يخلق خلقا أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ الأمر على أنه واحد الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله: {وإليه يرجع الأمر كلّه} [هود: 123] وبمنزلة قوله: {وإلى اللّه ترجع الأمور} [البقرة: 210] فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن له الخلق والأمر المصدرين حسب تقدمهما، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى: ألا له الخلق والأمر»، قال النقاش: ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعا في جميعها أنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق، وقال الشعبي الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة، وتبارك معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله تعالى، وتبارك لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلة ذلك أن تبارك لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلا إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب، لم تقله، و «الرب» السيد المصلح، والعالمين جمع عالم). [المحرر الوجيز: 3/ 577-580]
تفسير قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً إنّه لا يحبّ المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إنّ رحمت اللّه قريبٌ من المحسنين (56)}
هذا أمر بالدعاء وتعبد به، ثم قرر عز وجل بالأمر به صفات تحسن معه، وقوله: تضرّعاً معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، وخفيةً يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله عز وجل على ذلك في قوله: {إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا} [مريم: 3] ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الذكر الخفي »، والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر، وتأول بعض العلماء «التضرع والخفية» في معنى السر جميعا، فكأن التضرع فعل للقلب، ذكر هذا المعنى الحسن بن أبي الحسن، وقال: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: {إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا} [مريم: 3] وقال الزجاج ادعوا ربّكم معناه اعبدوا ربكم تضرّعاً وخفيةً أي باستكانة واعتقاد ذلك في القلوب، وقرأ جميع السبعة «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام و «خفية» بكسرها وهما لغتان، وقد قيل إن «خفية» بكسر الخاء بمعنى الخوف والرهبة، ويظهر ذلك من كلام أبي علي.
وقرأت فرقة «وخيفة» من الخوف، أي ادعوه باستكانة وخوف ذكرها ابن سيده في المحكم ولم ينسبها، وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا، وقوله: إنّه لا يحبّ المعتدين يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما، فإلى هذا هي الإشارة، والاعتداء في الدعاء على وجوه، منها الجهر الكثير والصياح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم- وقد رفعوا أصواتهم بالتكبير-: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك، وفي هذه الأسئلة كفاية، وقرأ ابن أبي عبلة «إن الله لا يحب المعتدين»، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»). [المحرر الوجيز: 3/ 580-582]
تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض ... الآية}، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال، قال الضحاك: معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال بعض الناس: المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.
وقوله تعالى: وادعوه خوفاً وطمعاً أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل لله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط ومنه تمني الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون، ثم أنس قوله تعالى: إنّ رحمت اللّه قريبٌ من المحسنين فإنها آية وعد فيها تقييد بقوله من المحسنين.
واختلف الناس في وجه حذف التاء من قريبٌ في صفة الرحمة على أقوال، منها أنه على جهة النسب أي ذات قرب، ومنها أنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جرت مجرى كف خضيب ولحية دهين، ومنها أنها بمعنى مذكر فذكر الوصف لذلك.
واختلف أهل هذا القول في تقدير المذكر الذي هي بدل منه فقالت فرقة الغفران والعفو، وقالت فرقة المطر، وقيل غير ذلك، وقال الفراء: لفظة القرب إذا استعملت في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد، وإذا استعملت في قرب المسافة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أو الزمن- فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء، وهذا منه، ومن هذا قول الشاعر: [الطويل]
عشية لا عفراء منك قريبة ....... فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فجمع في هذا البيت بين الوجهين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا قول الفراء في كتابه، وقد مر في بعض كتب المفسرين مقيدا ورد الزجّاج على هذا القول، وقال أبو عبيدة قريبٌ في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع وكذلك بعيد، فإذا جعلوها صفة بمعنى مقربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات.
وذكر الطبري أن قوله قريبٌ إنما يراد به مقاربة الأرواح للأجساد أي عند ذلك تنالهم الرحمة). [المحرر الوجيز: 3/ 582-584]