تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يا بني آدم ... الآية}، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه السلام والسبب والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت، ذكر النقاش ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامرا والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالا ونساء، وذلك غاية العار والعصيان، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات، وقوله: أنزلنا يحتمل أن يريد التدريج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس، قال عن اللباس أنزلنا، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا:
أقبل في المستن من سحابه ....... اسنمة الآبال في ربابه
أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب أنزلنا كقوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ} [الحديد: 25] وقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ} [الزمر: 6] وأيضا فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة، ولباساً عام في جميع ما يلبس، ويواري يستر، وفي حرف
أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى»، وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم»، ويروى عنه ذلك، وسقطت «ذلك» الأولى، وقرأ سكن النحوي «ولبوس التقوى» بالواو مرفوعة السين، وقرأ الجمهور من الناس «وريشا» وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضا، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشا»، قال أبو الفتح: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم: رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع، وفسره قوم بالأثاث، وفسره ابن عباس بالمال، وكذلك قال السدي والضحاك، وقال ابن زيد «الريش» الجمال، وقيل «الرياش» جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه، والريش مصدر أيضا من ذلك وفي الحديث «رجل راشه الله مالا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويشبه ان هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ، وراش الله مأخوذ من ذلك، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر: [لعمير بن حباب]
فرشني بخير طال ما قد بريتني ....... وخير الموالي من يريش ولا يبري
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباس» بالنصب عطفا على ما تقدم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباس» بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس، وقيل هو مبتدأ وذلك مبتدأ آخر وخيرٌ خبر ذلك، والجملة خبر الأول، وقيل هو مبتدأ وخيرٌ خبره وذلك بدل أو عطف بيان أو صفة، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة.
وقوله: ذلك من آيات اللّه إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه، ولعلّهم ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج لباس التّقوى الإيمان، وقال معبد الجهني: هو الحياء، وقال ابن عباس هو العمل الصالح، وقال أيضا، هو السمت الحسن في الوجه، وقاله عثمان بن عفان على المنبر، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله، وقال ابن زيد هو ستر العورة، وقيل لباس التّقوى الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل، وقال الحسن: هو الورع والسمت والحسن في الدنيا، وقال ابن عباس لباس التّقوى العفة، وقال زيد بن علي لباس التّقوى السلاح وآلة الجهاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها مثل وهي من لباس التّقوى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله: ذلك لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذا الحد توصف الأسماء بالمبهمات، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد، وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول ثم ثنيته بعينه في ذكر الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا» إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك أردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت: [الرجز]
اني وأسطار سطرن سطرا ....... لقائل يا نصر نصرا نصرا
ويا نصر الأول على عطف البيان والثاني على البدل). [المحرر الوجيز: 3/ 541-544]
تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله عز وجل: {يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشّياطين أولياء للّذين لا يؤمنون (27) وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها قل إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللّه ما لا تعلمون (28)}
هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة، فقيل كان ذلك من عادة قريش، وقال قتادة والضحاك: كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الصحيح لأن قريشا لما سنوا بعد عام الفيل سننا عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوبا فيطوف به، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى، ومنه قول الشاعر:
كفى حزنا كرّي عليه كأنه ....... لقى بين أيدي الطائفين حريم
وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ....... فما بدا منه فلا أحله
فنهى الله عز وجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، و «الفتنة» في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس، وظاهر قوله: لا يفتننّكم نهي الشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك هاهنا، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعيا في ذلك ومسببا له، ويقال أب وللأم أبة، وعلى هذا قيل أبوان، وينزع في موضع الحال من الضمير في أخرج، وتقدم الخلاف في «اللباس» من قول من قال الأظفار ومن قال النور ومن قال ثياب الجنة، وقال مجاهد: هي استعارة وإنما أراد لبسة التقى المنزلة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وقوله: إنّه يراكم الآية، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عز وجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم، وقبيله يريد نوعه وصنفه وذريته.
وحيث مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه، قال الزجاج: ما بعدها صلة لها وليست بمضافة إليه، قال أبو علي: هذا غير مستقيم وليست حيث بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات، وهي مضافة إلى ما بعدها.
ثم أخبر عز وجل أنه صير «الشياطين أولياء» أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهي نزعة اعتزالية). [المحرر الوجيز: 3/ 544-546]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {وإذا فعلوا} وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون ليقع التوبيخ بصفة قوم جعلوا مثالا للموبخين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم، ويصح أن تكون هذه الآية مقطوعة من التي قبلها ابتداء إخبار عن كفار العرب، و «الفاحشة» في هذه الآية وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة عند الطواف فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية، وقاله ابن عباس ومجاهد، وكان قول بعض الكفار إن الله أمر بهذه السنن التي لنا وشرعها، فرد الله عليهم بقوله قل إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء ثم وبخهم على كذبهم ووقفهم على قولهم ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هو دعوى واختلاق). [المحرر الوجيز: 3/ 546]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل أمر ربّي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كلّ مسجدٍ وادعوه مخلصين له الدّين كما بدأكم تعودون (29) فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة إنّهم اتّخذوا الشّياطين أولياء من دون اللّه ويحسبون أنّهم مهتدون (30)}
تضمن قوله: {قل أمر ربّي بالقسط} أقسطوا ولذلك عطف عليه قوله وأقيموا حملا على المعنى، و «القسط» العدل والحق، واختلف المتأولون في قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كلّ مسجدٍ}؛ فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع، وقيل: المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجهوكم فيه لله عز وجل، قال قوم: سببها أن قوما كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم، فإذا حضرت الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها، وقوله مخلصين حال من الضمير في وادعوه، والدّين مفعول ب مخلصين.
قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد: المراد بقوله: {كما بدأكم تعودون}؛ الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل تعودون). [المحرر الوجيز: 3/ 547]
تفسير قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وفريقاً نصب ب هدى، والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقا أو أضل «فريقا حق عليهم»، وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضا وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: المراد بقوله كما بدأكم تعودون الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء، فالوقف في هذا التأويل في قوله تعودون غير حسن، وفريقاً على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول، وفي قراءة أبي بن كعب «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة»، والضمير في إنّهم عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة، وأولياء معناه: أنصارا وأصحابا وإخوانا، ويحسبون معناه يظنون يقال: حسبت أحسب حسبانا وحسبا ومحسبة، قال الطبري:
وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر «أنهم اتخذوا» بفتح الألف). [المحرر الوجيز: 3/ 547-548]