تفسير قوله تعالى: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (19)}
إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته.
وقوله تعالى لآدم: {اسكن} هو من هذا الباب، وأكد الضمير الذي في قوله: {اسكن} بقوله: {أنت} وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل، وهذا الضمير الذي في اسكن أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد.
وقوله: {فكلا} هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها، وحسن أيضا حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا، ويقال قرب يقرب، وهذه الشّجرة الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها.
ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى الاحتمالين فآدم عليه السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقوله إنك لم تنه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكا، فيبطل بهذا قول من قال إن آدم إنما أخطأ متأولا بأن ظن النهي متعلقا بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقدا أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والهاء الأخيرة في هذه بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملا على الوقف، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه» وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة» على الأصل، وقوله: فتكونا نصب في جواب النهي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع. ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة
وقياسها على ما فيها، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرئ لأنفسنا، إذ الله عز وجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه، وأحل ما أراد تحليله، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عز وجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبدا ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبدا، وذلك أنّا نجد الله عز وجل يقول في كتابه حرّم عليكم في مواضع، ويقول أحلّ لكم في مواضع.
فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر، إما مخصوصا بها وإما مشتملا عليها وعلى غيرها، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمنا لا شرع فيه أو رجلا نشأ في برية ولم يحس قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها، وقال بعضهم: بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح، فإذا كان هذا في الشاهد جائزا فهو في عظم قدر الله تعالى ووجوده أجوز، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه، ويتعلق بحقه شيء من ذلك، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسينا ولا تقبيحا بمجرده يدان به، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع، وقال بعضهم: والعقل لم يخل قط من شرع، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس: قل الحمد لله يا آدم، وبقوله: اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد: إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم، ولكنهم رأوا لهم كلاما ملفقا مموها فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم، والصواب أن لا يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها). [المحرر الوجيز: 3/ 528-531]
تفسير قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فوسوس لهما الشّيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إنّي لكما لمن النّاصحين (21)}
«الوسوسة» الحديث في اختفاء همسا وسرارا من الصوت، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه، هذا حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس، ومن ذلك قول رؤية: [الرجز]
وسوس يدعو جاهرا رب الفلق
فهذه عبارة عن كلام خفي، والشّيطان يراد به إبليس نفسه، واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية مستخفيا بزعمه فيتمكن من الوسوسة، وروي أن آدم وحواء كانا يخرجان خارج الجنة فيتمكن إبليس منهما، وروي أن الله أقدره على الإلقاء في أنفسهما فأغواهما وهو في الأرض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف يرده لفظ القرآن، واللام في قوله ليبدي هي على قول كثير من المؤلفين لام الصيرورة والعاقبة، وهذا بحسب آدم وحواء وبحسب إبليس في هذه العقوبة المخصوصة لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويمكن أن تكون لام كي على بابها بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما وإلقائهما في العقوبة غير مخصصة، وما ووري معناه ما ستر، من قولك وارى يواري إذ ستر، وظاهر هذا اللفظ أنها مفاعلة من واحد، ويمكن أن تقدر من اثنين لأن الشيء الذي يوارى هو أيضا من جهة، وقرأ ابن وثاب «ما وري» بواو واحدة، وقال قوم: إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من وراء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهو قول يوهنه التصريف، و «السوأة»: الفرج والدبر، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء، وقرأ الحسن ومجاهد من «سوّتهما» بالإفراد وتسهيل الهمزة وشد الواو، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحسن والزهري: «من سوّاتهما» بتسهيل الهمزة وتشديد الواو وحكاها سيبويه لغة، قال أبو الفتح: ووجهها حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو، فيقولون سوة ومنهم من يشدد الواو، وقالت طائفة إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما وما يسوءهما ولم يقصد بها العورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول كان اللفظ يحتمله إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر الضمير في عليهما عائدا على بدنيهما إذ تمزقت عنهما ثياب الجنة، فيصح القول المذكور.
وقوله تعالى: {وقال ما نهاكما ... الآية} هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا، وممكن أن يقولها إلقاء في النفس ووحيا وإلّا أن تقديره عند سيبويه والبصريين إلا كراهية أن، وتقديره عند الكوفيين «إلا أن لا» على إضمار لا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف، وقرأ جمهور الناس «ملكين» بفتح اللام وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك «ملكين» بكسر اللام، ويؤيد هذه القراءة قوله في آية أخرى: {وملكٍ لا يبلى} [طه: 120].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال بعض الناس: يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر وهي مسألة اختلف الناس فيها وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة والفضل بيد الله، وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا تكون لهما شهوة في طعام). [المحرر الوجيز: 3/ 531-534]
تفسير قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقاسمهما أي حلف لهما بالله وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد، ومثله قول الهذلي:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ....... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وروي في القصص أن آدم قال في جملة اعتذاره: ما ظننت يا رب أن أحدا يحلف حانثا، فقال بعض العلماء خدع الشيطان آدم بالله عز وجل فانخدع، ونحن من خدعنا بالله عز وجل انخدعنا له، وروي نحوه عن قتادة، واللام في قوله: {لكما} متعلقة بالناصحين، فقال بعض الناس مكي وغيره: ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس لا بمعنى الذي، لأنها إذا كانت بمعنى الذي كان قوله: {لكما} داخلا في الصلة فلا يجوز تقديمه، وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه وهي بمعنى الذي، والظاهر أنه إن جعلت بمعنى الذي كانت اللام في قوله لكما متعلقة بمحذوف تقديره إني ناصح لكما من الناصحين، وقال أبو العالية في بعض القراءة «وقاسمهما بالله»). [المحرر الوجيز: 3/ 534]
تفسير قوله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل:{ فدلاّهما بغرورٍ فلمّا ذاقا الشّجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة وناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة وأقل لكما إنّ الشّيطان لكما عدوٌّ مبينٌ (22) قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (23)}
{فدلّاهما بغرورٍ}؛ يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه
فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي، وفي آية أخرى: {فأكلا منها} [طه: 121].
وقوله تعالى:
بدت قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبريا منهما، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور، وقال ابن عباس وقتادة: كان عليهما ظفر كاس فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم، وطفقا معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل.
ويخصفان معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض، والمخصف الإشفى، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة، وقرأ جمهور الناس «يخصفان» من خصف، وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان» بشد الصاد وقرأ الزهري «يخصفان» من أخصف، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب: «يخصّفان» بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها، قال ابن عباس: إن الورق الذي خصف منه ورق التين، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سحوق، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها: أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه أمني تفر يا آدم؟ قال لا يا رب، ولكن أستحييك، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال بلى يا رب، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا.
وقوله تعالى: {وناداهما ... الآية}، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع ان موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام، وأيضا ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس، وهذا ظاهره أنه مخصص، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم، وأيضا فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلّم» أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى، وقوله عز وجل ألم أنهكما سؤال تقرير يتضمن التوبيخ، وقوله تلكما يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة، وأقل لكما إنّ الشّيطان لكما عدوٌّ مبينٌ إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله: {فلا يخرجنّكما من الجنّة فتشقى} [طه: 117].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما»). [المحرر الوجيز: 3/ 534-537]
تفسير قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهما: {ربّنا ظلمنا أنفسنا} اعتراف من آدم وحواء عليهما السلام وطلب للتوبة والستر والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه، قال الضحاك هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه). [المحرر الوجيز: 3/ 537]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آيات اللّه لعلّهم يذّكّرون (26)}
المخاطبة بقوله:{اهبطوا} قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم: هي لآدم وحواء وإبليس والحية، وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بني آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء، وأما قوله في آية أخرى: {اهبطا} [طه: 123] فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما، وعدو فرد بمعنى الجمع، تقول قوم عدو وقوم صديق. ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن كنتم على النأي والغنى ....... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
وعداوة الحياة معروفة، وروى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما سالمناهن منذ حاربناهن»، وقال عبد الله بن عمر: «من تركهن فليس منا»، وقالت عائشة «من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق، وقول النبي عليه السلام: إن جنا بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئا في بيته فليحرج عليه ثلاثا فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر.
وقوله تعالى، مستقرٌّ لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال: هي كقوله: {الّذي جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة: 22] وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله:{ ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25] وأما «المتاع» فهو بحسب
شخص شخص، في زمن الحياة اللهم إلا أن يقدر سكنى القبر متاعا بوجه ما، و «المتاع» التمتع والنيل من الفوائد، وإلى حينٍ هو بحسب الجملة قيام الساعة، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت، والحين في كلام العرب الوقت غير معين.
وروي أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة، وتمناها بمنى، وعرف حقيقة أمرها بعرفة، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقريه، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك ما لم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء. وأهبطت الحية بأصبهان.
وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ). [المحرر الوجيز: 3/ 537-540]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فيها تحيون ... الآية}، حكم من الله عز وجل أمضاه وجعله حتما في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء هنا، وفي الروم: {وكذلك تخرجون ومن آياته} [الآية: 19] وكذلك حيث تكرر إلا في الروم: {إذا أنتم تخرجون} [الآية: 25] وفي {سأل سائل يوم يخرجون} [الآية: 43] فإن هذين بفتح التاء والياء وضم الراء، ولم يختلف الناس فيهما، وقرأ حمزة والكسائي في الأعراف: {ومنها تخرجون} [الآية: 25] بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الأعراف وضمها في الباقي). [المحرر الوجيز: 3/ 540-541]