تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد مكّنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون (10) ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من السّاجدين (11)}
الخطاب لجميع الناس، والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض، و «المعايش» جمع معيشة وهي لفظة تعم المأكول الذي يعاش به والتحرف الذي يؤدي إليه، وقرأ الجمهور «معايش» بكسر الياء دون همز، وقرأ الأعرج وغيره «معائش» بالهمز كمدائن وسفائن، ورواه خارجة عن نافع، وروي عن ورش «معايش» بسكون الياء، فمن قرأ «معايش» بتصحيح الياء فهو الأصوب لأنها جمع معيشة وزنها مفعلة، ويحتمل أن تكون مفعلة بضم العين قالهما سيبويه، وقال الفراء مفعلة بفتح العين فالياء في معيشة أصلية وأعلت معيشة لموافقتها الفعل الذي هو يعيش في الياء أي في المتحرك والساكن، وصححت «معايش» في جمع التكسير لزوال الموافقة المذكورة في اللفظ ولأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما تختص به الأسماء، ومن قرأ «معايش» فعلى التخفيف من «معايش»، ومن قرأ «معائش» فأعلها فذلك غلط، وأما توجيهه فعلى تشبيه الأصل بالزائد لأن معيشة تشبه في اللفظ صحيفة فكما يقال صحائف قيل «معائش»، وإنما همزت ياء صحائف ونظائرها مما الياء فيه زائدة لأنها لا أصل لها في الحركة وإنما وزنها فعلية ساكنة، فلما اضطر إلى تحريكها في الجمع بدلت بأجلد منها.
وقليلًا نصب ب تشكرون، ويحتمل أن تكون ما زائدة، ويحتمل أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، قليلًا نعت لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون). [المحرر الوجيز: 3/ 518-519]
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ... الآية}، هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر، وإلا فلم يعر المخلوق قط من صورة، واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك، فقالت فرقة: المراد بقوله: ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم آدم بنفسه وإن كان الخطاب لبنيه، وذلك لما كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صح مع تجوز أن يقال إنه فعل في بنيه، وقال مجاهد: المعنى ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم في صلب آدم وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويترتب في هذين القولين أن تكون ثمّ على بابها في الترتيب والمهلة، وقال عكرمة والأعمش: المراد خلقناكم في ظهور الآباء وصورناكم في بطون الأمهات. وقال ابن عباس والربيع بن أنس: أما خلقناكم فآدم وأما صوّرناكم فذريته في بطون الأمهات، وقاله قتادة والضحاك.
وقال معمر بن راشد من بعض أهل العلم: بل ذلك كله في بطون الأمهات، من خلق وتصوير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقالت هذه الفرقة إن ثمّ لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها. وقال الأخفش ثمّ في هذه الآية بمعنى الواو، ورد عليه نحويو البصرة.
و «ملائكة» وزنه إما مفاعلة وإما معافلة بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة البقرة، وهنالك ذكرنا هيئة السجود والمراد به ومعنى إبليس وكيف كان قبل المعصية، وأما قوله في هذه الآية إلّا إبليس فقال الزجّاج هو استثناء ليس من الأول ولكن إبليس أمر بالسجود بدليل قوله تعالى: {ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك} وقال غير الزجّاج: الاستثناء من الأول لأنّا لو جعلناه منقطعا على قول من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود، إلا أن يقول قائل هذه المقالة إن أمر إبليس كان بوجه آخر غير قوله: اسجدوا وذلك بيّن الضعف.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «للملائكة اسجدوا» بضم الهاء وهي قراءة ضعيفة. ووجهها أنه حذف همزة اسجدوا وألقى حركتها عن الهاء، وذلك لا يتجه لأنها همزة محذوفة مع جر الهاء بحركة، أي شيء يلغى والإلغاء إنما يكون في الوصل). [المحرر الوجيز: 3/ 519-521]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ (12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصّاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنّك من المنظرين (15) قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم (16)}
ما استفهام والمقصود به التوبيخ والتقريع، ولا في قوله «أن لا» قيل هي زائدة، والمعنى ما منعك أن تسجد وهي ك «لا» في قول الشاعر: [الطويل]
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ....... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
وهذا على أحد الأقوال في هذا البيت فقيل «لا» فيه زائدة. وقال الزجّاج: مفعولة والبخل بدل منها، وحكى الطبري عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن الرواية فيه لا البخل بخفض اللام لأن «لا» قد تتضمن جودا إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. ومن الأبيات التي جاءت لا فيها زائدة قول الشاعر: [الكامل]
أفمنك لا برق كأنّ وميضه ....... غاب تسنمه ضرام مثقب
وقيل في الآية ليست لا زائدة، وإنما المعنى ما منعك فأحوجك أن تسجد، وقيل: لما كان ما منعك بمعنى من أمرك ومن قال لك حسن أن يقول بعدها ألّا تسجد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجملة هذا الغرض أن يقدر في الكلام فعل يحسن حمل النفي عليه، كأنه قال ما أحوجك أو حملك أو اضطرك، وجواب إبليس اللعين ليس عما سئل عنه ولكنه جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة عليه، فكأنه قال: منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار وخلقته من طين. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا أسجد وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، يقول إن النار أقوى من الطين وظن إبليس أن النار أفضل من الطين وليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق، فلما ظن إبليس أن صعود النار وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين فأخطأ قياسه وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من طين، قال الطبري ذهب عليه ما في النار من الطيش والخفة والاضطراب، وفي الطين من الوقار والأناة والحمل والتثبت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي كلام الطبري نظر، وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: قال الطبري يعنيان الخطأ ولا دليل من لفظهما عليه ولا يتأول عليهما إنكار القياس، وإنما خرج كلامهما نهيا عما كان في زمنهما من مقاييس الخوارج وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجادة). [المحرر الوجيز: 3/ 521-522]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فاهبط منها ... الآية}، أمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود، فيظهر من هذا أنه إنما أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم. وقوله: فما يكون لك معناه فما يصح لك ولا يتم، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا فما يكون على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل ما كان لك أن لا تصل قرابتك لغير معنى الإغلاظ على إبليس. وقوله: {إنّك من الصّاغرين} حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله، والصغار الذل قاله السدي). [المحرر الوجيز: 3/ 522-523]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم سأل إبليس ربه أن يؤخره إلى يوم البعث طمع أن لا يموت، إذ علم أن الموت ينقطع بعد البعث ومعنى أنظرني أخرني فأعطاه الله النظرة إلى يوم الوقت المعلوم، فقال أكثر الناس الوقت المعلوم هو النفخة الأولى في الصور التي يصعق لها من في السماوات ومن في الأرض من المخلوقين، وقالت فرقة بل أحاله على وقت معلوم عنده عز وجل يريد به يوم موت إبليس وحضور أجله دون أن يعين له ذلك، وإنما تركه في عماء الجهل به ليغمه ذلك ما عاش.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال بعض أهل هذه المقالة: إن إبليس قتلته الملائكة يوم بدر ورووا في ذلك أثرا ضعيفا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول من هذه الأقوال أصح وأشهر في الشرع). [المحرر الوجيز: 3/ 523]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر). [المحرر الوجيز: 3/ 523]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {فبما} يحتمل أن يريد به القسم كما تقول فبالله لأفعلن، ويحتمل أن يريد به معنى المجازاة كما تقول فبإكرامك يا زيد لأكرمنك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أليق المعاني بالقصة، ويحتمل أن يريد فمع إغوائك لي ومع ما أنا عليه من سوء الحال لأتجلدن ولأقعدن، ولا يعرض لمعنى المجازاة ويحتمل أن يريد بقوله فبما الاستفهام عن السبب في إغوائه، ثم قطع ذلك وابتدأ الإخبار عن قعوده لهم، وبهذا فسر الطبري أثناء لفظه وأغويتني قال الجمهور معناه أضللتني من الغي. وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي فيما حكى الطبري: قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل، وقال الحسن أغويتني لعنتني. وقيل معناه خيبتني.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله تفسير بأشياء لزمت إغواءه، وقالت فرقة أغويتني معناه أهلكتني، حكى ذلك الطبري، وقال: هو من قولك غوى الفصيل يغوي غوى إذا انقطع عنه اللبن فمات. وأنشد:
[الطويل]
معطّفة الأثناء ليس فصيلها ....... برازئها درا ولا ميت غوى
قال: وقد حكي عن بعض طيئ: أصبح فلان غاويا أي مريضا، وقوله: لأقعدنّ لهم صراطك يريد على صراطك وفي صراطك وحذف كما يفعل في الظروف، ونحوه قول الشاعر: [ساعدة بن جؤية].
لدن بهز الكف يعسل متنه ....... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال مجاهد: صراطك المستقيم يريد به الحق. وقال عون بن عبد الله: يريد طريق مكة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تخصيص ضعيف وإنما المعنى لأتعرضن لهم في طريق شرعك وعبادتك ومنهج النجاة فلأصدنهم عنه. ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، نهاه عن الإسلام وقال تترك دين آبائك فعصاه فأسلم فنهاه عن الهجرة وقال تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجهاد وقال تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة» الحديث). [المحرر الوجيز: 3/ 524-525]
تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17) قال اخرج منها مذؤماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم منكم أجمعين (18)}
هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني آدم، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس فيما روي عنه: أراد بقوله من بين أيديهم الآخرة ومن خلفهم الدنيا وعن أيمانهم الحق، وعن شمائلهم الباطل. وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه: من بين أيديهم هي الدنيا ومن خلفهم هي الآخرة وعن أيمانهم الحسنات وعن شمائلهم السيئات. وقال مجاهد: من «بين أيديهم وعن أيمانهم»: معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم» حيث لا يبصرون.
وقوله: ولا تجد أكثرهم شاكرين خبر أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه وتوهما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك، قال ابن عباس وقتادة: إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل. ومنه قوله: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلّا فريقاً من المؤمنين} [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة». ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام: «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض، وهذا فيه بعد، وشاكرين معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، قاله ابن عباس وغيره). [المحرر الوجيز: 3/ 525-527]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قال اخرج منها} الضمير في منها عائد على الجنة ومذؤماً معناه معيبا يقال ذأمه إذا عابه ومنه الذأم وهو العيب. وفي المثل: «لن تعدم لحسناء ذاما»، أي عيبا، وسهلت فيه الهمزة، ومنه قول قيل حمير: أردت أن تذيمه فمدهته يريد فمدحته، وحكى الطبري أنه يروى هذا البيت: [الطويل]
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ....... فلمّا انجلت قطعت نفسي أذيمها
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والرواية المشهورة ألومها. ومن الشاهد في اللفظ قول الكميت: [الخفيف]
وهم الأقربون من كلّ خير ....... وهم الأبعدون من كل ذام
ومن الشاهد في مدحور قول الشاعر: [الوافر]
ودحرت بني الحصيب إلى قديد ....... وقد كانوا ذوي أشر وفخر
وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش في هذه الآية «مذوما» على التسهيل، ومدحوراً معناه مقصيا مبعدا. وقرأت فرقة «لمن تبعك» بفتح اللام وهي على هذه لام القسم المخرجة الكلام من الشك إلى القسم، وقرأ عاصم الجحدري والأعمش «لمن تبعك» بكسر اللام، والمعنى لأجل من تبعك لأملأنّ جهنّم منكم أجمعين فأدخله في الوعيد معهم بحكم هذه الكاف في منكم). [المحرر الوجيز: 3/ 527-528]