تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وهو الّذي أنشأ جنّاتٍ معروشاتٍ ... الآية}، هذا تنبيه على مواضع الاعتبار وأنشأ معناه خلق واخترع و «الجنة»: مأخوذة من جن إذا ستر، ومعروشاتٍ قال ابن عباس: ذلك في ثمر العنب، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات» ما عرش كهيئة الكرم، وغيره البساتين وقيل: المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل: المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق، ومختلفاً: نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء، ومتشابهاً يريد في المنظر، وغير متشابهٍ في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله كلوا من ثمره نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك، ويقرأ «من ثمره» بضم الثاء وقد تقدم، وآتوا حقّه يوم حصاده فقالت طائفة من أهل العلم: هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه، وقاله مالك بن أنس.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة، ومعترض أيضا بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه، وقال ابن الحنفية أيضا وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم:
بل قوله وآتوا حقّه ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة، وقال الربيع بن أنس حقه إباحة لقط السنبل، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها.
وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن، وقال السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال عن العلماء.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والنسخ غير مترتب في هذه الآية، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حصاده»، وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حصاده» بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر، وقوله تعالى: ولا تسرفوا الآية، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل، وقاله ابن زيد، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته.
وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة، فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئا عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية). [المحرر الوجيز: 3/ 474-476]
تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومن الأنعام حمولةً وفرشاً كلوا ممّا رزقكم اللّه ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ (142) ثمانية أزواجٍ من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبّئوني بعلمٍ إن كنتم صادقين (143)}
{حمولةً} عطف على {جنّاتٍ معروشاتٍ} التقدير وأنشأنا من الأنعام حمولة، والحمولة ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والهاء في حمولةً للمبالغة، وقال الطبري هو اسم جمع لا واحد من لفظه، و «الفرش» ما لا يحمل ثقلا كالغنم وصغار البقر والإبل، هذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، يقال له الفرش والفريش، وذهب بعض الناس إلى أن تسميته فرشاً إنما هي لوطاءته وأنه مما يمتهن ويتوطأ ويتمكن من التصرف فيه إذ قرب جسمه من الأرض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الحمولة» الإبل والخيل والبغال والحمير، ذكره الطبري.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا منه تفسير لنفس اللفظة لا من حيث هي في هذه الآية، ولا تدخل في الآية لغير الأنعام وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب، وقوله ممّا رزقكم نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة والسائبة وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان وهي جمع خطوة أي لا تمشوا في طرقه المضلّة، وقد تقدم في سورة البقرة اختلاف القراء في «خطوات»، ومن شاذها قراءة علي رضي الله عنه والأعرج وعمرو بن عبيد «خطؤات» بضم الخاء والطاء وبالهمزة، قال أبو الفتح وذلك جمع خطأة من الخطأ ومن الشاذ قراءة أبي السمال «خطوات» بالواو دون همزة وهو جمع خطوة وهي ذرع ما بين قدمي الماشي، ثم علل النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم). [المحرر الوجيز: 3/ 477-478]
تفسير قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ثمانية} اختلف في نصبها فقال الأخفش علي بن سليمان بفعل مضمر تقديره كلوا لحم ثمانية أزواج فحذف الفعل والمضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل نصب على البدل من ما في قوله كلوا ممّا رزقكم اللّه، وقيل نصبت على الحال، وقيل نصبت على البدل من قوله حمولةً وفرشاً، وهذا أصوب الأقوال وأجراها مع معنى الآية، وقال الكسائي نصبها أنشأ والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه، وهي أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج، والضّأن جمع ضائنة وضائن، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن» بفتح الهمزة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعز» بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ومن المعز» بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر وضان ومعز كخادم وخدم ونحوه، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن اثنان» على الابتداء والخبر المقدم، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز وقوله تعالى: قل آلذّكرين هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله، أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم جميع الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئا مما يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله نبّئوني أخبروني بعلمٍ أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله إن كنتم صادقين وإن شرط وجوابه في نبّئوني، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت إن لا يظهر لها عمل في الماضي، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب). [المحرر الوجيز: 3/ 478-479]
تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصّاكم اللّه بهذا فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذباً ليضلّ النّاس بغير علمٍ إنّ اللّه لا يهدي القوم الظّالمين (144)}
القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم في قوله: {من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين} وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في آلذّكرين أو فيما اشتملت عليه أرحام الأنثيين لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم.
وقوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ وصّاكم اللّه بهذا الآية استفهام على جهة التوبيخ، إذ لم يبق لهم الادعاء المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا، وشهداء جمع شهيد، ثم تضمن قوله تعالى: فمن أظلم ذكر حال مفتري الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه، وقال السدي: كان الذين سيبوا وبحروا يقولون: الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى لكان ظلما عظيما فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة. وقد يحتمل أن تكون اللام في ليضلّ لام صيرورة، ثم جزم الحكم لا رب غيره بأنه لا يهدي القوم الظّالمين، أي لا يرشدهم، وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي ظلمة كثيرة بالتوبة). [المحرر الوجيز: 3/ 479]