تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وجعلوا للّه ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)}
الضمير في جعلوا عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة، وذرأ معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا وذروءا أي خلقهم، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول، فبينه بقوله: فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق، يقال «زعم» بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة، «وزعم» بضمها، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية «زعم» بكسر الزاي، ولا أحفظ أحدا قرأ به والحرث في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض، وقوله لشركائنا يريد به الأصنام والأوثان، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم بساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلّاتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءا تسميه لله وجزءا تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه، وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه، وإن بالعكس سدوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك.
قال هذا المعنى ابن عباس، ومجاهد، والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، وقوله تعالى: فما كان لشركائهم الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله فلا يصل وقوله يصل ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله، فكأنه قال «فلا يصل» إلى ذكر الله وقال فهو «يصل» إلى ذكر شركائهم، وما في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن يجري هنا ساء مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله: {ساء مثلًا القوم} [الأعراف: 177]. لأن المفسر ظاهر في الكلام). [المحرر الوجيز: 3/ 466-467]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء اللّه ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)}
«الكثير» في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب، و «الشركاء» هاهنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضا من بني آدم الناقلين له عصرا بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعلته، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زين» بفتح الزاي «قتل» بالنصب «أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم»، وهذه أبين قراءة، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم» بالرفع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر، كأنه قال: زينه شركاؤهم قال سيبويه: وهذا كما قال الشاعر: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة ....... ومختبط مما يطيح الطوائح
كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليّ ركوب الفرس زيد أي أن ركب الفرس زيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل، وأيضا فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح، ومنه قوله عز وجل على قراءة من قرأ: {يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ} [النور: 36] بفتح الباء المشددة أي «يسبّح رجال»، وقرأ ابن عامر «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بنصب الدال «شركائهم» بخفض الشركاء، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [أبو حية النميري]: [الوافر]
كما خطّ بكفّ يوما ....... يهوديّ يقارب أو يزيل
فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو: [مجزوء الكامل]
فزججته بمزجّة ....... زجّ القلوص أبي مزادة
وفي بيت الطرماح وهو قوله: [الطويل]
يطفن بحوزيّ المرابع لم يرع ....... بواديه من قرع القسيّ الكنائن
والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون، وذلك مضمن قراءة الجماعة.
وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زين» بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بكسر الدال «شركائهم» بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة. وليردوهم معناه ليهلكوهم من الردى، وليلبسوا معناه ليخلطوا، والجماعة على كسر الباء، وقرأ إبراهيم النخعي «وليلبسوا» بفتح الباء، قال أبو الفتح: هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله: {وكذلك زيّن}. وقوله تعالى: {ولو شاء اللّه ما فعلوه}، يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله، وقوله تعالى: فذرهم وعيد محض، ويفترون معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم). [المحرر الوجيز: 3/ 467-470]