تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وجعلوا للّه شركاء الجنّ وخلقهم وخرقوا له بنين وبناتٍ بغير علمٍ سبحانه وتعالى عمّا يصفون (100) بديع السّماوات والأرض أنّى يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبةٌ وخلق كلّ شيءٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (101) ذلكم اللّه ربّكم لا إله إلاّ هو خالق كلّ شيءٍ فاعبدوه وهو على كلّ شيءٍ وكيلٌ (102)}
جعلوا بمعنى صيروا، والجنّ مفعول وشركاء مفعول ثان مقدم، ويصح أن يكون قوله شركاء مفعولا أولا وللّه في موضع المفعول الثاني والجنّ بدل من قوله شركاء، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا، أما الذين «خرقوا البنين» فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في جعلوا وخرقوا لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنّ» بخفض النون، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجن والجن» بالخفض والرفع على تقديرهم الجن، وقرأ الجمهور «وخلقهم» بفتح اللام على معنى وهو خلقهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم» يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» بسكون اللام عطفا على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء بالله، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرقوا» بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء على المبالغة، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» من التحريف كذا قال أبو الفتح، قال أبو عمرو الداني قرأ ابن عباس «حرفوا» خفيفة الراء، وابن عمر «حرّفوا» مشددة الراء، وقوله تعالى بغير علمٍ نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى، سبحانه أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى). [المحرر الوجيز: 3/ 431-432]
تفسير قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وبديع بمعنى: مبدع ومخترع وخالق، فهو بناء اسم فاعل كما جاء: سميع بمعنى مسمع وأنّى بمعنى كيف ومن أين، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن» بالتاء على تأنيث علامة الفعل، وقرأ إبراهيم النخعي: بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال، فقولك: كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في تكن ضمير اسم الله تعالى، وتكون الجملة التي هي له صاحبةٌ خبر كان، ويتجه أن يكون في «يكن» ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيرا له وخبرا، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد، وقوله وخلق كلّ شيءٍ لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه، فليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه التخصيص، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان: قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه، وأما قوله وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه). [المحرر الوجيز: 3/ 432]
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى: ذلكم اللّه ربّكم الآية تتضمن تقريرا وحكما إخلاصا أمرا بالعبادة وإعلاما بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول وفي هذا الإعلام تخويف وتحذير). [المحرر الوجيز: 3/ 432]
تفسير قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير (103) قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظٍ (104) وكذلك نصرّف الآيات وليقولوا درست ولنبيّنه لقومٍ يعلمون (105)}
أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفا ولا محدودا، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظرةٌ} [القيامة: 22] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب لمالك فقال: فأين هم عن قوله تعالى: {كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطفّفين: 15].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى: لا تدركه الأبصار وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها، وانفصال آخر، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية، ونقول إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله وهو يدرك الأبصار ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي، فرقوا بين الرؤية والإدراك، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنّا لمدركون فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو باشتراك، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة، قال: وقال بعضهم: إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعا ولا تستند إلى قرآن ولا حديث، واللّطيف المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه، وبخلقه وعباده والخبير المختبر لباطن أمورهم وظاهرها). [المحرر الوجيز: 3/ 433-434]