قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وما قدروا اللّه حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ قل من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى نوراً وهدىً للنّاس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل اللّه ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون (91)}
الضمير في قدروا وقالوا قيل يراد به العرب قاله مجاهد وغيره، وقيل يراد به بنو إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل رجل مخصوص منهم يقال له مالك بن الصيف قاله سعيد بن جبير، وقيل في فنحاص قاله السدي، قدروا هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن تعليله بقولهم ما أنزل اللّه يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثه الرسل وحقّ نصب على المصدر، ومن قال إن المراد كفار العرب فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله: من أنزل الكتاب الّذي جاء به موسى احتجاجا بأمر مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، ومن قال إن المراد بني إسرائيل فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيما لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى عليه السلام، وروي أن مالك بن الصيف كان سمينا فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله ألست تقرأ فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال والله ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ والآية على قول من قال نزلت في قول بني إسرائيل تلزم أن تكون مدنية، وكذلك حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وغيرهما «وما قدّروا» بتشديد الدال «الله حق قدره» بفتح الدال، وقرأ الجمهور في الأول بالتخفيف وفي الثاني بإسكانه.
وقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب ... الآية}، أمره الله تعالى أن يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة، والمراد ب الكتاب التوراة، ونوراً وهدىً اسمان في موضع الحال بمعنى نيرا وهاديا، فإن جعلناه حالا من الكتاب فالعامل فيه أنزل، وإن جعلناه حالا من الضمير في به فالعامل فيه جاء، وقرأ جمهور الناس «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون» بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة، فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل استقامت له هذه القراءة وتناسقت مع قوله: وعلّمتم ما لم تعلموا ومن رأى أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب فيضطر في هذه القراءة إذ لا يمكن دفعها إلى أن يقول إنه خرج من مخاطبة قريش في استفهامهم وتقريرهم إلى مخاطبة بني إسرائيل بتوبيخهم وتوبيخ أفعالهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة، فكأنه على هذا التأويل قال لقريش من أنزل الكتاب على موسى، ثم اعترض على بني إسرائيل فقال لهم خلال الكلام تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا» بالياء في الأفعال الثلاثة، فمن رأى الاحتجاج على قريش رآه إخبارا من الله عز وجل بما فعلته اليهود في الكتاب، ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن فأمته متلقية ذلك، وقراطيس جمع قرطاس أي بطائق وأوراقا والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه السلام والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة
وقوله: {وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قال مجاهد وغيره: هي مخاطبة للعرب، فالمعنى على هذا قصد ذكر منة الله عليهم بذلك أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم.
-قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله: وعلّمتم ما لم تعلموا يصلح على هذا المعنى لمخاطبة من انتفع بالتعليم ومن لم ينتفع به، ويصح الامتنان بتعليم الصنفين، وليس من شرط من علم أن يعلم ولا بد، اما أن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم، وقالت فرقة بل هي مخاطبة لبني إسرائيل، والمعنى على هذا يترتب على وجهين، أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به، لأن آباء المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم، وليس ذلك في آباء العرب، والوجه الآخر أن يكون المقصود منهم أي وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم ولا انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة أي قل: الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا أو نحو هذا فقل الله ثم أمره بترك من كفر وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال إن تأولت موادعة، وقد يحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة، و «الخوض» الذهاب فيما لا تسبر حقائقه، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة، ويلعبون في موضع الحال). [المحرر الوجيز: 3/ 415-417]
تفسير قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدّق الّذي بين يديه ولتنذر أمّ القرى ومن حولها والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92)}
قوله هذا إشارة إلى القرآن، ومباركٌ صفة له، ومصدّق كذلك، وحذف التنوين من مصدّق للإضافة وهي إضافة غير محضة لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفا لنكرة، والّذي في موضع المفعول، والعامل فيه مصدر، ولا يصلح أن يكون مصدّق مع حذف التنوين منه يتسلط على الّذي، ويقدر حذف التنوين للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذا في الشعر في قوله: [المتقارب]
فألفيته غير مستعتب ....... ولا ذاكر الله إلّا قليلا
ولا يقاس عليه، وبين يديه هي حال التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر، وقالت فرقة الّذي بين يديه القيامة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى» أي أنت يا محمد، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر» أي القرآن بمواعظه وأوامره، واللام في لتنذر متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه، وأمّ القرى مكة سميت بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى، ومنها ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى، ومن حولها يريد أهل سائر الأرض، وحولها ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره ومن استقر حولها، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور، ويؤمنون بالقرآن ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل مدحهم بأنهم «يحافظون على صلاتهم» التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم» بالجمع، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع وإذا انضافت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير). [المحرر الوجيز: 3/ 417-418]