تفسير قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وحاجّه فاعله من الحجة، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد الله، وقرأت فرقة «أتحاجونني» بإظهار النونين وهو الأصل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني» بإدغام النون الأولى في الثانية، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني» بحذف النون الواحدة فقيل: هي الثانية وقيل هي الأولى، ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة، قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في «ليتي» وفي قول الشاعر: [الوافر] يسوء الفاليات إذا فليني وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء و «قد هداني» أي أرشدني إلى معرفته وتوحيده، وأمال الكسائي «هدان»، والإمالة في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا وهما من ذوات الواو فهي في «هدان» التي هي من ذوات الياء أجوز وأحسن، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام خف أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك، فقال لهم لست أخاف الذي تشركون به، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده وما في هذا الموضع بمعنى الذي، والضمير في به يحتمل أن يعود على الله عز وجل فيكون على هذا في قوله تشركون ضمير عائد على ما تقدير الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية، ويحتمل أن يعود الضمير على ما فلا يحتاج إلى غيره، كأن التقدير ما تشركون بسببه، وقوله تعالى: إلّا أن يشاء ربّي شيئاً استثناء ليس من الأول وشيئاً منصوب ب يشاء، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر، وعلماً نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل، كما تقول العرب: تصبب زيد عرقا، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء أفلا تتذكّرون توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم). [المحرر الوجيز: 3/ 405-406]
تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم باللّه ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82) وتلك حجّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء إنّ ربّك حكيمٌ عليمٌ (83)}
هذه الآية إلى تعلمون هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، المعنى: وكيف أخاف الأصنام التي لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا تخافون أنتم الله عز وجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة، و «السلطان»: الحجة، ثم استفهم على جهة التقرير فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن). [المحرر الوجيز: 3/ 406]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين آمنوا ... الآية}، الّذين رفع بالابتداء، ويلبسوا معناه يخلطوا، و «الظلم» في هذه الآية الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك كما قال لقمان: إن الشرك لظلم عظيم وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت عليه، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر وسأله عنها، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسري عن عمر، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهم، وقرأ مجاهد، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» وقرأ عكرمة «يلبسوا» بضم الياء، والأمن رفع بالابتداء وخبره في المجرور والجملة خبر أولئك، وهم مهتدون أي راشدون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد بهذه الآية إبراهيم خاصة، وقال عكرمة: نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه السلام خاصة، وقالت فرقة: هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي أوتيها، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من الحجة أيضا أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في الإشراك، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما: بل ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها، وهو خبر من الله تعالى). [المحرر الوجيز: 3/ 406-407]
تفسير قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ووتلك إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة وهي رفع بالابتداء وحجّتنا خبره وآتيناها في موضع الحال، ويجوز أن تكون حجّتنا بدلا من تلك وآتيناها خبر «تلك» «وإبراهيم» مفعول ب «آتينا»، والضمير مفعول أيضا ب آتينا مقدم وعلى متعلقة بقوله حجّتنا وفي ذلك فصل كثير، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها» على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجات من نشاء» بإضافة الدرجات إلى من، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجات من نشاء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهما مأخذان من الكلام، والمعنى المقصود بهما واحد، ودرجاتٍ على قراءة من نون نصب على الظرف، وحكيمٌ عليمٌ صفتان تليق بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة واختيار فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام، والدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية). [المحرر الوجيز: 3/ 407-408]