تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره وإمّا ينسينّك الشّيطان فلا تقعد بعد الذّكرى مع القوم الظّالمين (68) وما على الّذين يتّقون من حسابهم من شيءٍ ولكن ذكرى لعلّهم يتّقون (69)}
لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الصحيح، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل: بل بالمعنى أيضا إنما أريد به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، وإمّا شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقد لا تلزم كما قال:
إمّا يصبك عدوّ في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنك» بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد، إلا أن التشديد أكثر مبالغة، والذّكرى والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي، ووصفهم هنا ب الظّالمين متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وفأعرض في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك فلا تقعد). [المحرر الوجيز: 3/ 384-385]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وما على الّذين يتّقون من حسابهم ... الآية}، المراد ب الّذين هم المؤمنون. والضمير في حسابهم عائد على الّذين يخوضون ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله: فأعرض قال إن النبي عليه السلام داخل في هذا القصد ب الّذين يتّقون، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا: إذا كنا لا نضرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك وما على الّذين يتّقون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها، وقال بعض من يقول إن النبي عليه السلام داخل في الّذين يتّقون وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه، وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، وأما من قال إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم لثقل مفارقته مغضبا على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة بالمؤمنين، ومعناها الإباحة، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه، وفيه عندي نظر، وقال قائل هذه المقالة: إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى: {وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره} [النساء: 140] وكذلك أيضا من قال أولا إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية، والإشارة بقوله: وقد نزّل: [النساء: 140] إليها بنفسها فتأمله، وإلا فيجب أن يكون الناسخ غيرها، وذكرى على هذا القول يحتمل أن يكون ذكروهم ذكرى، ويحتمل ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت العبادة ذكرى، وذكرى على كل قول يحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل أو رفع بإضمار مبتدأ، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدال والخوض فيه، وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله). [المحرر الوجيز: 3/ 385-386]
تفسير قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدّنيا وذكّر به أن تبسل نفسٌ بما كسبت ليس لها من دون اللّه وليٌّ ولا شفيعٌ وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها أولئك الّذين أبسلوا بما كسبوا لهم شرابٌ من حميمٍ وعذابٌ أليمٌ بما كانوا يكفرون (70)}
هذا أمر بالمشاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ، قال قتادة: ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد: الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11] وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبرا وهو التهديد، وقوله: {لعباً ولهواً} يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي، وغرّتهم الحياة الدّنيا أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويتخرج في غرّتهم هنا وجه آخر من الغرور بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ولما التقينا بالحنيّة غرّني ....... بمعروفه حتّى خرجت أفوّق
ومنه غر الطائر فرخه، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر» في كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو دينا، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا، والضمير في به عائد على الدين، وقيل: على القرآن، وأن تبسل في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل، ومعناه تسلم، قال الحسن وعكرمة، وقال قتادة: تحبس وترتهن، وقال ابن عباس: تفضي وقال الكلبي وابن زيد: تجزى، وهذه كلها متقاربة بالمعنى، ومنه قول الشنفري: [الطويل]
هنالك لا أرجو حياة تسرّني ....... سمير اللّيالي مبسلا بالجرائر
وقال بعض الناس هو مأخوذ من البسل أي من الحرام كما قال الشاعر [ضمرة النهشاني]: [الكامل]
بكرت تلومك بعد وهن في النّدى ....... بسل عليك ملامتي وعتابي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا بعيد، ونفسٌ تدل على الجنس، ومعنى الآية وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام، وقوله تعالى: {ليس لها من دون اللّه} في موضع الحال، ومن لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة ودون ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل: وأمر دون عبيدة الودم والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور وإن تعدل كلّ عدلٍ أي وإن تعط كل فدية، وإن عظمت فتجعلها عدلا لها لا يقبل منها، وحكى الطبري عن قائل ان المعنى وإن تعدل من العدل المضاد للجور، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل، والقول نص لأبي عبيدة، و «العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه، وقبل: العدل بالكسر المثل والعدل بالفتح القيمة، وأولئك إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله تبسل نفسٌ، وأبسلوا معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر، و «الحميم» الماء الحار، ومنه الحمام والحمة ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
... ... ... ... ....... إلا الحميم فإنّه يتبصّع
«وأليم» فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم). [المحرر الوجيز: 3/ 387-389]