تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم ... الآية}، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه، وله ذلك كله بحق ملكه فلا تكوننّ من الجاهلين في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أسلوب معنى الآية، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن وكبر عليك إعراضهم خبرها، ويصح أن يكون إعراضهم هو اسم كان ويقدر في كبر ضمير وتكون كبر في موضع الخبر، والأول من الوجهين أقيس، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع، والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل]: [البسيط]
لا يحزن المرء أحجاء البلاد ولا ....... تبنى له في السماوات السّلاليم
وفتأتيهم بآيةٍ أي بعلامة، ويريد إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء، وإما أن «تأتيهم بالآية» من إحدى الجهتين، وحذف جواب الشرط قبل في قوله: {فإن استطعت} إيجاز لفهم السامع به، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم، ولجمعهم يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم، والهدى الإرشاد، وهذه الآية ترد على القدرية المغرضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم، ومن الجاهلين يحتمل في أن لا يعلم أن الله لو شاء اللّه لجمعهم ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم: {فلا تكوننّ من الجاهلين} وبين قوله لنوح عليه السلام: {إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] وقد تقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، قال مكي والمهدي: والخطاب بقوله فلا تكوننّ من الجاهلين للنبي -عليه السلام- والمراد به أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: وقر نوح لسنه وشيبته، وقال قوم: جاء الحمل أشد على محمد -صلى الله عليه وسلم- لقربه من الله -تعالى- ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجئ بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد -صلى الله عليه وسلم- أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم). [المحرر الوجيز: 3/ 353-355]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {إنّما يستجيب الّذين يسمعون والموتى يبعثهم اللّه ثمّ إليه يرجعون (36) وقالوا لولا نزّل عليه آيةٌ من ربّه قل إنّ اللّه قادرٌ على أن ينزّل آيةً ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (37) وما من دابّةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلاّ أممٌ أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ ثمّ إلى ربّهم يحشرون (38)}
هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب{ يسمعون} إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا سمع، ثم قال تعالى: والموتى يريد الكفار، فعبر، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته، قاله مجاهد وقتادة والحسن، ويبعثهم اللّه يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله» بأن يؤمنوا حين يوقفهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فتجيء الاستعارة في هذا التأويل، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثا، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت الموتى على الّذين، ويبعثهم اللّه في موضع الحال، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر، وقرأ الحسن «ثم إليه يرجعون» فتناسبت الآية، وقال مجاهد وقتادة: والموتى يريد الكفار، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون، ويبعثهم اللّه أي: يحشرهم يوم القيامة ثمّ إليه أي إلى سطوته وعقابه يرجعون، وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة، والموتى مبتدأ ويبعثهم اللّه خبره، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار، والعائد على الّذين هو الضمير في يسمعون). [المحرر الوجيز: 3/ 355-356]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والضمير في قالوا عائد على الكفار، ولولا تحضيض بمعنى هلا، قال الشاعر [جرير]: [الطويل]
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ....... بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا
ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآية، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل ولكنّ أكثرهم لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون). [المحرر الوجيز: 3/ 356-357]