تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله لا تغلوا بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب غير وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله، ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: وضلّوا عن سواء السّبيل وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيرا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق). [المحرر الوجيز: 3/227]
تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل الآية. قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام، وقال ابن عباس رحمه الله: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الانحجاب، قال: اللهم اجعلهم خنازير، فكانوا خنازير، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة، وقال مجاهد وقتادة: بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير، وحكى الزجّاج نحوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة، وقوله تعالى: ذلك إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن). [المحرر الوجيز: 3/227-228]
تفسير قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيراً منهم يتولّون الّذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون باللّه والنّبيّ وما أنزل إليه ما اتّخذوهم أولياء ولكنّ كثيراً منهم فاسقون (81)
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه أي أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود:
وكان رسول الله متكئا فجلس، وقال: لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله يتناهون وفعلوه يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى: لبئس ما كانوا يفعلون اللام لام قسم، وجعل الزجاج ما مصدرية وقال: التقدير لبئس شيئا فعلهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر، وقال غيره ما نكرة موصوفة، التقدير: لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا). [المحرر الوجيز: 3/228-229]
تفسير قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: ترى كثيراً يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أي قدمته للآخرة واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: أن سخط اللّه عليهم ف أن سخط في موضع رفع بدل من ما، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم، وقال الزجاج: «أن» في موضع نصب ب أن سخط اللّه عليهم.
وقوله تعالى: والنّبيّ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: ترى كثيراً منهم كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين). [المحرر الوجيز: 3/229-230]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقال مجاهد رحمه الله: ولو كانوا يؤمنون آية يعني بها المنافقين). [المحرر الوجيز: 3/230]