تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين}
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {يا أيّها الّذين آمنوا} أي صدّقوا اللّه ورسوله {لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعني اليهود والنّصارى الّذين جاءتهم الرّسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم ومن قبل نزول كتابنا أولياء. يقول: لا تتّخذوهم أيّها المؤمنون أنصارًا وإخوانًا وحلفاء، فإنّهم لا يألونكم خبالاً وإن أظهروا لكم مودّةً وصداقةً.
وكان اتّخاذ هؤلاء اليهود الّذين أخبر اللّه عنهم المؤمنين أنّهم اتّخذوا دينهم هزوًا ولعبًا الدّين على ما وصفهم به ربّنا تعالى ذكره، أنّ أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيمٌ، ثمّ يراجع الكفر بعد يسيرٍ من المدّة بإظهار ذلك بلسانه قولاً بعد أن كان يبدي بلسانه الإيمان قولاً وهو للكفر مستبطنٌ، تلعّبًا بالدّين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
وبنحو الّذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عبّاسٍ.
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، وأبو كريبٍ، قالا: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان رفاعة بن زيد بن التّابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام، ثمّ نافقا، وكان رجالٌ من المسلمين يوادّونهما، فأنزل اللّه فيهما: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} إلى قوله: {واللّه أعلم بما كانوا يكتمون}.
فقد أبان هذا الخبر عن صحّة ما قلنا من أنّ اتّخاذ من اتّخذ دين اللّه هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية، إنّما كان بالنّفاق منهم وإظهارهم للمؤمنين الإيمان واستبطانهم الكفر وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم: إنّا معكم. فنهى اللّه عن موادّتهم ومحالفتهم، والتّمسّك بحلفهم والاعتداد بهم أولياء، وأعلمهم أنّهم لا يألونهم خبالاً، وفي دينهم طعنًا وعليه إزراءً.
وأمّا الكفّار الّذين ذكرهم اللّه تعالى ذكره في قوله: {من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} فإنّهم المشركون من عبدة الأوثان نهى اللّه المؤمنين أن يتّخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر أولياء دون المؤمنين.
وكان ابن مسعودٍ فيما:
- حدّثني به أحمد بن يوسف، قال: حدّثنا القاسم بن سلامٍ، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن هارون، عن ابن مسعودٍ يقرأ: من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا.
ففي هذا بيان صحّة التّأويل الّذي تأوّلناه في ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته جماعةٌ من أهل الحجاز والبصرة والكوفة: والكفّار أولياء بخفض الكفّار، بمعنى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفّار أولياء.
وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعبٍ فيما بلغنا: من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفّار أولياء.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة: {والكفّار أولياء} بالنّصب، بمعنى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفّار، عطفًا بالكفّار على الّذين اتّخذوا.
والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّهما قراءتان متّفقتا المعنى صحيحتا المخرج، قد قرأ بكلّ واحدةٍ منهما علماءٌ من القرّاء، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فقد أصاب؛ لأنّ النّهي عن اتّخاذ وليٍّ من الكفّار نهيٌ عن اتّخاذ جميعهم أولياء، والنّهي عن اتّخاذ جميعهم أولياء نهيٌ عن اتّخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنّه غير مشكلٍ على أحدٍ من أهل الإسلام أنّ اللّه تعالى ذكره إذا حرّم اتّخاذ وليٍّ من المشركين على المؤمنين، أنّه لم يبح لهم اتّخاذ جميعهم أولياء، ولا إذا حرّم اتّخاذ جميعهم أولياء أنّه لم يخصّص إباحة اتّخاذ بعضهم وليًّا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم طلب الدّليل على.أولى القراءتين في ذلك بالصّواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ بالخفض أو بالنّصب لما ذكرنا من العلّة.
وأمّا قوله: {واتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين} فإنّه يعني: وخافوا اللّه أيّها المؤمنون في هؤلاء الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب ومن الكفّار أن تتّخذوهم أولياء أو نصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدّمه إليكم بالنّهي عنه إن كنتم تؤمنون باللّه وتصدّقونه على وعيده على معصيته). [جامع البيان: 8/533-535]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين (57)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب
- وبه عن السّدّيّ قوله: لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: نهاهم وتقدّم إليهم.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق: قال محمّد بن أبي محمّدٍ: وكان رفاعة بن ديد بن التّابوت، وسويد بن الحارث قد ظهرا الإسلام ونافقا وكان رجالٌ من المسلمين يوادّونهما، فأنزل اللّه فيهما يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين). [تفسير القرآن العظيم: 4/1163]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فانزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا} إلى قوله {أعلم بما كانوا يكتمون}.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير عن ابن مسعود، انه كان يقرأ (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا) ). [الدر المنثور: 5/364]
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون} يقول تعالى ذكره: وإذا أذّن مؤذّنكم أيّها المؤمنون بالصّلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفّار من اليهود والنّصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك {ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون} يعني تعالى ذكره بقوله: ذلك فعلهم الّذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدّعاء إلى الصّلاة، إنّما يفعلونه بجهلهم بربّهم، وأنّهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصّلاة وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدّعوة إليها، ولو عقلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند اللّه من العقاب ما فعلوه.
وقد ذكر عن السّدّيّ في تأويله ما:
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا} كان رجلٌ من النّصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه، قال: حرّق الكاذب فدخلت خادمه ذات ليلةٍ من اللّيالي بنارٍ وهو نائمٌ وأهله نيامٌ، فسقطت شرارةٌ، فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله). [جامع البيان: 8/536]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون (58)
قوله تعالى: وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا قال: كان رجلٌ من النّصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه قال: حرق الكاذب. فدخلت خادمه ليلةً من اللّيالي بنارٍ وهو نائمٌ وأهله نيامٌ فسقطت شرارةٌ فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله.
- أخبرنا إسحاق بن إسماعيل بن عبد الأعلى الأيليّ فيما كتب إليّ قال: سمعت سلامة بن روح بن خالدٍ ابن أخي عقيل بن خالدٍ قال: قال عقيل بن خالدٍ قال محمّد بن مسلم بن شهابٍ الزّهريّ: قد ذكر اللّه الأذان في كتابه فقال: وإذا ناديتم إلى الصّلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا). [تفسير القرآن العظيم: 4/1163-1164]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}.
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} أمر الله، قال: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزأوا بهم وضحكوا منهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمد رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو قائم واهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن شهاب الزهري قال: قد ذكر الله الأذان في كتابه فقال {وإذا ناديتم إلى الصلاة}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبيد بن عمير قال ائتمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كيف يجعلون شيئا إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها به فائتمروا بالناقوس فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام أن لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا بالصلاة فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي رأى وقد جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد سبقك بذلك الوحي حين أخبره بذلك عمر). [الدر المنثور: 5/364-366]