تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إنّا أنزلنا التّوراة الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى»:
الإرشاد في المعتقد والشرائع، و «النور»: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنّبيّون الّذين أسلموا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية وأسلموا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: للّذين هادوا متعلق ب يحكم أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى: الرّبّانيّون عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبرا ولا ربانيا. وقوله تعالى: بما استحفظوا أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى: وإنّا له لحافظون [الحجر: 9] والحمد لله. وقوله تعالى: فلا تخشوا النّاس واخشون حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلًا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون فقالت جماعة: المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي: نزلت الكافرون في المسلمين والظّالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا أعلم بهذا التخصيص وجها إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: فلا تخشوا النّاس وقال إبراهيم النخعي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها). [المحرر الوجيز: 3/174-177]
تفسير قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاصٌ فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظّالمون (45)
«الكتب» في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في عليهم لبني إسرائيل وفي فيها للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أنّ النّفس بالنّفس بنصب النفس على اسم أنّ وعطف ما بعد ذلك منصوبا على النّفس. ويرفعون «والجروح قصاص» على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. وقصاصٌ خبر أنّ. وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروح». وقرأ الكسائي «أن النفس بالنفس» نصبا ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب «والعين» جعل عطف الواو مشركا في عمل «أن» ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع «والعين» فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في
عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله: وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس قلنا لهم النفس بالنفس، ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ
[الصافات: 45] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله والعين على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [الأعراف: 27] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: ما أشركنا ولا آباؤنا [الأنعام: 148].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب لا في قوله: ولا آباؤنا فكانت لا عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال أبو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن لا ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع «والجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ: «وأن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح».
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله:
النّفس بالنّفس فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها النّفس بالنّفس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكذلك قوله تعالى: والجروح قصاصٌ هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. و «القصاص» مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل، وقوله تعالى: فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: له عليه أيضا، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة، وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم. وقال به أيضا قتادة والحسن، والمعنى الثاني أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل، والضمير في له يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في له يعود عليه أيضا، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهدا قال إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وانظر أن تصدّق على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوما تأولوا الآية أن المعنى والجروح قصاصٌ فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل اللّه الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له»). [المحرر الوجيز: 3/177-181]