تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (معمر عن قتادة والكلبي في قوله تعالى وإن تلوا أو تعرضوا قال تدخل في شهادتك ما يبطلها أو تعرض عنها فلا تشهد بها). [تفسير عبد الرزاق: 1/176]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (ويذكر عن ابن عبّاسٍ {حصرت} [النساء: 90]:ضاقت، {تلووا} [النساء: 135]:ألسنتكم بالشّهادة). [صحيح البخاري: 6/46-47]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله تلووا ألسنتكم بالشّهادة وصله الطّبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاسٍ في قوله تعالى وإن تلووا أو تعرضوا قال تلووا ألسنتكم بشهادةٍ أو تعرضوا عنها وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن قتادة قال أن تدخل في شهادتك ما يبطلها أو تعرض عنها فلا تشهدها وقرأ حمزة وبن عامرٍ وأن تلوا بواوٍ واحدةٍ ساكنةٍ وصوّب أبو عبيد قراءة الباقين واحتج بتفسير بن عبّاسٍ المذكور وقال ليس للولاية هنا معنًى وأجاب الفرّاء بأنّها بمعنى اللّيّ كقراءة الجماعة إلّا أنّ الواو المضمومة قلبت همزةً ثمّ سهّلت وأجاب الفارسيّ بأنّها على بابها من الولاية والمراد إن تولّيتم إقامة الشّهادة). [فتح الباري: 8/256]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال ابن جرير ثنا المثنى ثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية عن علّي ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس {وإن تلووا أو تعرضوا} يعني أن تلووا ألسنتكم بشهادة أو تعرضوا عنها). [تغليق التعليق: 4/197]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (تلووا ألسنتكم بالشّهادة
أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وأن تلووا أو تعرضوا} ، ونقل هذا التّفسير أيضا ابن عبّاس. قال ابن المنذر، حدثنا زكريّا حدثنا أحمد بن نصر حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس بلفظ: (وأن تلووا وتعرضوا) يعني: إن تلووا ألسنتكم بالشّهادة أو تعرضوا عنها، وقرأ حمزة وابن عامر: وإن تلوا، بواو واحدة ساكنة ويكون على هذا من الولاية. وقال أبو عبيدة، وليس للولاية هنا معنى، وأجاب الفراء بأنّها بمعنى اللبي كقراءة الجماعة إلّا أن الواو المضمومة قلبت همزة ثمّ سهلت. وقال الفارسي: إنّها على بابها من الولاية، والمراد، وإن وليتم إقامة الشّهادة). [عمدة القاري: 18/179]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (ويذكر عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما مما وصله ابن أبي حاتم في تفسيره في قوله تعالى: {حصرت} [النساء: 90] أي (ضاقت) صدورهم وعنه أيضًا مما وصله الطبري في قوله تعالى: ({وإن} {تلووا}) [النساء: 135] أي (ألسنتكم بالشهادة) أو تعرضوا عنها وسقط قوله تلووا الخ لأبي ذر). [إرشاد الساري: 7/88]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا}.
وهذا تقدّمٌ من اللّه تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الّذين سعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر بني أبيرقٍ، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبّهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنّهم أهل فاقةٍ وفقرٍ؛ يقول اللّه لهم: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط} يقوله: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني بالعدل. {شهداء للّه} والشّهداء: جمع شهيدٍ، ونصبت الشّهداء على القطع ممّا في قوله: {قوّامين}، من ذكر الّذين آمنوا، ومعناه: قوموا بالقسط للّه عند شهادتكم، أو حين شهادتكم. {ولو على أنفسكم} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحقّ، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقيرٍ، ولا لفقيرٍ لفقره على غنيٍّ فتجوروا، فإنّ اللّه الّذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيّها النّاس من إقامة الشّهادة لكلّ واحدٍ منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنّه مالكهما وأولى والههما دونكما، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحدٍ منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلّها منكم، فلذلك أمركم بالتّسوية بينهما في الشّهادة لهما وعليهما. {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} يقول: فلا تتّبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيٍّ على فقيرٍ أو لفقيرٍ على غنيٍّ إلاّ أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشّهادة على ما أمركم اللّه بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائلٌ: وكيف يقوم بالشّهادة على نفسه الشّاهد بالقسط، وهل يشهد الشّاهد على نفسه؟
قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حقٌّ لغيره، فيقرّ له به، فذلك قيامٌ منه له بالشّهادة على نفسه. وهذه الآية عندي تأديبٌ من اللّه جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الّذين عذروا بني أبيرقٍ في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر قيل عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشهادتهم لهم عنده بالصّلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشّهادة لإنسانٍ أو عليه، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمّهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنّكم غنى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمه منكم على الشّهادة له بالزّور ولا على ترك الشّهادة عليه بالحقّ وكتمانها.
وقد قيل: إنّها نزلت تأديبًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن حسينٍ، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه} قال: نزلت في النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، واختصم إليه رجلان غنيّ وفقيرٌ، فكان ضلعه مع الفقير، يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنيّ، فأبى اللّه إلاّ أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير، فقال: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} الآية.
وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنّها نزلت في الشّهادة أمرًا من اللّه المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغنيّ والفقير.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} قال: أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} فتذروا الحقّ فتجوروا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهابٍ، في شهادة الوالد لولده وذي القرابة، قال: كان ذلك فيما مضى من السّنّة في سلف المسلمين، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما} الآية، فلم يكن يتّهم سلف المسلمين الصّالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرّجل لامرأته، ثمّ دخل النّاس بعد ذلك فظهرت منهم أمورٌ حملت الولاة على اتّهامهم، فتركت شهادة من يتّهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزّوج والمرأة لم يتّهم إلاّ هؤلاء في آخر الزّمان.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه} إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشّهادة، قال: يقول هذا للشّاهد.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه} الآية، هذا في الشّهادة، فأقم الشّهادة يا ابن آدم ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو أشراف قومك، فإنّما الشّهادة للّه وليست للنّاسٍ، وإنّ اللّه رضي العدل لنفسه؛ والإقساط والعدل ميزان اللّه في الأرض، به يردّ اللّه من الشّديد على الضّعيف، من الكاذب على الصّادق، ومن المبطل على المحقّ، وبالعدل يصدّق الصّادق، ويكذّب الكاذب، ويردّ المعتدي، ويوبّخه تعالى ربّنا وتبارك، وبالعدل يصلح النّاس. يا ابن آدم إن يكن غنيًّا أو فقيرًا، فاللّه أولى بهما، يقول: أولى بغنيّكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أنّ نبيّ اللّه موسى عليه السّلام قال: يا ربّ أيّ شيءٍ وضعت في الأرض أقلّ؟ قال: العدل أقلّ ما وضعت في الأرض، فلا يمنعك غنى غنيٍّ ولا فقر فقيرٍ أن تشهد عليه بما تعلم، فإنّ ذلك عليك ن الحقّ. وقال جلّ ثناؤه: {فاللّه أولى بهما}.
وقد قيل: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا} الآية، أريد: فاللّه أولى بغنى الغنيّ وفقر الفقير، لأنّ ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال {بهما}، ولم يقل: به
وقال آخرون: إنّما قيل {بهما} لأنّه قال: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا} فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهولٌ، وإذا كان مجهولاً جاز الرّدّ عليه بالتّوحيد والتّثنية والجمع. وذكر قائلو هذا القول أنّه في قراءة أبيٍّ: فاللّه أولى بهم.
وقال آخرون: أو بمعنى الواو في هذا الموضع وقال آخرون: جاز تثنية قوله {بهما}، لأنّهما قد ذكرا كما قيل: {وله أخٌ أو أختٌ فلكلّ واحدٍ منهما} وقيل: جاز لأنّه أضمر فيه من كأنّه قيل: إن يكن من خاصم غنيًّا أو فقيرًا، بمعنى: غنيّين أو فقيرين، فاللّه أولى بهما.
وتأويل قوله {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} على ما ذكرنا من أقوال من ذكرنا قوله فلا تتبعون الهوى في أن تعدلوا عن الحقّ، فتجوروا بترك إقامة الشّهادة بالحقّ. ولو وجّه إلى أنّ معناه: فلا تتّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشّهادة بالقسط كان وجهًا.
وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتّبعوا الهوى لتعدلوا، كما يقال: لا تتّبع هواك لترضي ربّك، بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربّك بتركه).
[جامع البيان: 7/583-588]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا}
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عنى: وإن تلووا أيّها الحكّام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا، فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا. ووجّهوا معنى الآية إلى أنّها نزلت في الحكّام على نحو القول الّذي ذكرنا عن السّدّيّ من قوله: إنّ الآية نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، على ما ذكرنا قبل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا جريرٌ، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه: {وإن تلووا أو تعرضوا} قال: هما الرّجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيّها الشّهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها، أو تعرضوا عنها فتتركوها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وإن تلووا أو تعرضوا} يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشّهادة أو تعرضوا عنها.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه} إلى قوله: {وإن تلووا أو تعرضوا} يقول: تلوي لسانك بغير الحقّ، وهي اللّجلجة، فلا تقيم الشّهادة على وجهها. والإعراض التّرك.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، في قوله: {وإن تلووا} أي تبدّلوا الشّهادة {أو تعرضوا} قال: تكتموها.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإن تلووا} قال: بتبديل الشّهادة، والإعراض: كتمانها.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإن تلووا أو تعرضوا} قال: إن تحرّقوا، أو تتركوا.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وإن تلووا أو تعرضوا} قال: تلجلجوا أو تكتموا؛ وهذا في الشّهادة.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإن تلووا أو تعرضوا} أمّا تلووا: فتلوي للشّهادة فتحرّفها حتّى لا تقيمها؛ وأمّا {تعرضوا}: فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادةٌ.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {وإن تلووا} فتكتموا الشّهادة، تلوي: تنقص منها، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبى أن تشهد عليه، تقول: أكتم عنه لأنّه مسكينٌ أرحمه فتقول: لا أقيم الشّهادة عليه، وتقول: هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قبله فلا أشهد عليه، فذلك قوله: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا}.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإن تلووا} تحرّفوا {أو تعرضوا} تتركوا.
- حدّثنا محمّد بن عمارة، قال: حدّثنا حسن بن عطيّة، قال: حدّثنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة، في قوله: {وإن تلووا} قال: إن تلجلجوا في الشّهادة فتفسدوها، {أو تعرضوا} قال: تتركوها.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله: {وإن تلووا أو تعرضوا} قال: إن تلووا في الشّهادة، أن لا تقيموها على وجهها {أو تعرضوا} قال: تكتموا الشّهادة.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، قال: حدّثنا شيبان، عن قتادة أنّه كان يقرا: {وإن تلووا أو تعرضوا} بواوين يعني: تلجلجوا {أو تعرضوا} قال: تدعها فلا تشهد.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: {وإن تلووا أو تعرضوا} أمّا تلووا: فهو أن يلوي الرّجل لسانه بغير الحقّ، يعني في الشّهادة
قال أبو جعفرٍ: وأولى التّأويلين بالصّواب في ذلك تأويل من تأوّله: أنّه ليّ الشّاهد شهادته لمن يشهد له وعليه؛ وذلك تحريفه إيّاها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمّن شهد عليه. وأمّا إعراضه عنها، فإنّه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها.
وإنّما قلنا: هذا التّأويل أولى بالصّواب، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه قال: {كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه} فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء، وأظهر معاني الشّهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشّهادة.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وإن تلووا} فقرأ ذلك عامّة قرّاء الأمصار سوى الكوفة {وإن تلووا} بواوين من: لواني الرّجل حقّي، والقوم يلوونني ديني، وذلك إذا مطلوه، ليًّا.
وقرأ ذلك جماعةٌ من قرّاء أهل الكوفة: وإن (تلوا) بواو واحدةٍ؛ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان:
أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها، ثمّ أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللاّم إذ أسقطه، وبقيت واوٌ واحدةٌ، كأنّه أراد: تلوؤا، ثمّ حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ: {وإن تلووا} بواوين غير أنّه خالف المعروف من كلام العرب، وذلك أنّ الواو الثّانية من قوله: {تلووا} واو جمعٍ، وهي علمٌ لمعنى، فلا يصحّ همزها ثمّ حذفها بعد همزها، فيبطل علم المعنى الّذي له أدخلت الواو المحذوفة.
والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: إن تلوا، من الولاية، فيكون معناه: وإن تلوا أمور النّاس، أو تتركوا. وهذا معنى إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا إليه، خارجٌ عن معاني أهل التّأويل وما وجّه إليه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والتّابعون تأويل الآية.
فإذا كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصّواب من القراءة الّذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وإن تلووا أو تعرضوا} بمعنى اللّيّ: الّذي هو مطلٌ، فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشّهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها. فتغيّروها، وتبدّلوا، أو تعرضوا عنها، فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرّجل دين الرّجل، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له، كما قال الأعشى:
يلوينني ديني النّهار وأقتضي = ديني إذا وقذ النّعاس الرّقّدا
وأمّا تأويل قوله: {فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} فإنّه أراد: فإنّ اللّه كان بما تعملون من إقامتكم الشّهادة وتحريفكم إيّاها وإعراضكم عنها بكتمانكموها، خبيرًا، يعني: ذا خبرةٍ وعلمٍ به، يحفظ ذلك منكم عليكم حتّى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، يقول: فاتّقوا ربّكم في ذلك).
[جامع البيان: 7/588-593]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: كونوا قوّامين بالقسط أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا الحقّ، ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم.
- حدّثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه قال: نزلت في النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء يعني: قوّامين بالعدل. وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
- قرأت على محمّد بن الفضل بن موسى، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد ابن مزاحمٍ أبو وهبٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله:
كونوا قوّامين بالقسط قال: قوّامين بالشّهادة.
- حدّثنا أبي، ثنا عبد العزيز بن المغيرة، ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه وهذا في الشّهادة، فأقم الشّهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو والديك أو على ذوي قرابتك أو على أشراف قومك، فإنّما الشّهادة للّه وليست للنّاس، وإنّ اللّه رضي بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان اللّه في الأرض به يردّ اللّه من الشّديد على الضّعيف ومن الكاذب على الصّادق، ومن المبطل على المحقّ، وبالعدل يصدّق الصّادق ويكذّب الكاذب، ويردّ المعتدي ويوبّخه، تبارك وتعالى وبالعدل صلح النّاس يا ابن آدم.
قوله تعالى: بالقسط شهداء للّه.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: بالقسط شهداء للّه يعني: بالعدل. وروي عن مقاتل بن حيّان نحو ذلك.
قوله تعالى: ولو على أنفسكم.
- وبه عن سعيد بن جبيرٍ قوله: ولو على أنفسكم يقول: لو كان تأحد عليك حقٌّ فأقررت به على نفسك.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، عن بكيرٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: ولو على أنفسكم يقول: على نفسك.
قوله تعالى: أو الوالدين والأقربين.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: أو الوالدين والأقربين يعني: أو على الوالدين والأقربين فاشهد به عليهم.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: أو الوالدين والأقربين يقول: على نفسك أو على الوالدين والأقربين قريبًا كان أو بعيدًا، غنيًّا كان أو فقيرًا.
قوله تعالى: إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: إن يكن غنيًّا أو فقيرًا قال: أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا الحقّ، ولا يحابون غنيًّا لغناه ولا يرحمون مسكينًا لمسكنته.
- حدّثنا أحمد بن ثمان بن حكيمٍ، ثنا أحمد بن المفضّل، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله: إن يكن غنيًّا أو فقيرًا قال: نزلت في النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم اختصم إليه رجلان غنيٌّ وفقيرٌ، فكان ضلعه مع الفقير يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنيّ، فأبى اللّه تعالى إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير.
قوله تعالى: فاللّه أولى بهما.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: فاللّه أولى بهما قال: يعني: أنّ اللّه أولى بالغنيّ والفقير من غيره.
قوله تعالى: فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: فلا تتّبعوا الهوى فتذروا الحقّ فتجوروا.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: فاللّه أولى بهما قال: يعني: أنّ اللّه أولى بالغنيّ والفقير من غيره.
قوله تعالى: فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: فلا تتّبعوا الهوى فتذروا الحقّ فتجوروا.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاء ابن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله تعالى: تتّبعوا الهوى يعني في الشّهادات.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: فلا تتّبعوا الهوى في الشّهادة إذا دعيتم لها أن تقولوا بها وتعدلوا.
قوله تعالى: أن تعدلوا.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ قوله: أن تعدلوا يعني: عن الحقّ.
قوله تعالى: وإن تلووا.
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: وإن تلووا ألسنتكم بالشّهادة.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثني عمّي حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: وإن تلووا يقول: تلوي بلسانك بغير الحقّ، وهي اللّجاجة فلا يقيم الشّهادة على وجهها.
وروي عن عطاء الخرساني، وعطية، وسعيد بن جير، والضحاك، والسدي ومقاتل بن الحيان نحو ذلك.
والوجه الثّاني:
- حدّثني أبي، ثنا عمرو بن رافعٍ، ثنا جريرٌ، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا. قال: الرّجلان يقعدان عند القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرّجلين على الآخر.
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ وإن تلووا قال: تحرّفوا.
قوله تعالى: أو تعرضوا.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: أو تعرضوا يعني: الشّهادة.
وروي عن سعيد بن جبيرٍ، ومقاتل بن حيّان نحو ذلك.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إلي، حدثني، حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: أو تعرضوا يقول: الإعراض: التّرك.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا عبد الرّحمن، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله: أو تعرضوا قال: تتركوا.
وروي عن عطيّة مثل ذلك، وروي عن السّدّيّ أنّه قال: فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادةٌ.
قوله تعالى: فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: فإنّ اللّه كان بما تعملون يعني: من كتمان الشّهادة وإقامتها خبيرًا).
[تفسير القرآن العظيم: 4/1086-1090]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وإن تلووا يقول تبدلوا الشهادة أو تعرضوا يقول تكتموها). [تفسير مجاهد: 178]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين} الآية، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابوا غنيا لغناه ولا يرحموا مسكينا لمسكنته وفي قوله {فلا تتبعوا الهوى} فتذروا الحق فتجوروا {وإن تلووا} يعني ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} الآية، قال: الرجلان يقعدان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر.
وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن مولى لابن عباس قال: لما قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفها النساء قال:
فكان الرجل يكون عنده الشهادة قبل ابنه أو عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي فنزلت {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} يعني إن يكن غنيا أو فقيرا.
وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: نزلت في النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان حلفه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: هذا في الشهادة فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين أو على ذي قرابتك وأشراف قومك فإنما الشهادة لله وليست للناس وإن الله تعالى رضي بالعدل لنفسه والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض به يرد الله من الشديد على الضعيف ومن الصادق على الكاذب ومن المبطل على المحق وبالعدل يصدق الصادق ويكذب الكاذب ويرد المعتدي ويوبخه تعالى ربنا وتبارك وبالعدل يصلح الناس يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما يقول الله أولى بغنيكم وفقيركم ولا يمنعك عنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم فإن ذلك من الحق قال: وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام قال: يا رب أي شيء وضعت في الأرض أقل قال: العدل أقل ما وضعت.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {وإن تلووا أو تعرضوا} يقول: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا يقيم الشهادة على وجهها، والإعراض الترك
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال {تلووا} تحرفوا و{تعرضوا} تتركوا.
وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله {وإن تلووا} يقول: تبدلوا الشهادة {أو تعرضوا} يقول: تكتموها).
[الدر المنثور: 5/73-76]
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزّل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذين آمنوا} بمن قبل محمّدٍ من الأنبياء والرّسل، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند اللّه {آمنوا باللّه ورسوله} يقول: صدّقوا باللّه، وبمحمّدٍ رسوله، أنّه للّه رسولٌ مرسلٌ إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم. {والكتاب الّذي نزّل على رسوله} يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمّدٌ من الكتاب الّذي نزّله اللّه عليه، وذلك القرآن. {والكتاب الّذي أنزل من قبل} يقول: وآمنوا بالكتاب الّذي أنزل اللّه من قبل الكتاب الّذي نزّله على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو التّوراة والإنجيل.
فإن قال قائلٌ: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان باللّه ورسوله وكتبه وقد سمّاهم مؤمنين؟
قيل: إنّه جلّ ثناؤه لم يسمّهم مؤمنين، وإنّما وصفهم بأنّهم آمنوا، وذلك وصفٌ لهم بخصوصٍ من التّصديق، وذلك أنّهم كانوا صنفين صنف: أهل توراةٍ مصدّقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمّدٍ صلوات اللّه عليهما؛ وصنفٌ أهل إنجيلٍ وهم مصدّقون به وبالتّوراة وسائر الكتب، مكذّبون بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والفرقان. فقال جلّ ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذين آمنوا} يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرّسل {آمنوا باللّه ورسوله} محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، {والكتاب الّذي نزّل على رسوله} فإنّكم قد علمتم أنّ محمّدًا رسول اللّه تجدون صفته في كتبكم {والكتاب الّذي أنزل من قبل} الّذي تزعمون أنّكم به مؤمنون، فإنّكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمّدٍ مكذّبون، لأنّ كتابكم يأمركم بالتّصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمّدًا، وإلاّ فأنتم به كافرون.
فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الدّين آمنوا}
وأمّا قوله: {ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} فإنّ معناه: ومن يكفر بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فيجحد نبوّته، فهو يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومعناه من يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله لأنّ جحود الشّيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه وذلك ولأنّه لا يصحّ إيمان أحدٍ من الخلق إلاّ بالإيمان بما أمره اللّه بالإيمان به، والكفر بشيءٍ منه كفرٌ بجميعه، فلذلك قال: {ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} بعقب خطابه أهل الكتاب، وأمره إيّاهم بالإيمان بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم تهديدًا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانيّة اللّه والملائكة والكتب والرّسل واليوم الآخر سوى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به من الفرقان.
وأمّا قوله: {فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا} فإنّه يعني: فقد ذهب عن قصد السّبيل، وجار عن محجّة الطّريق إلى المهالك ذهابًا وجورًا بعيدًا، لأنّ كفر من كفر بذلك خروجٌ منه عن دين اللّه الّذي شرعه لعباده، والخروج عن دين اللّه: الهلاك الّذي فيه البوار، والضّلال عن الهدى هو الضّلال).
[جامع البيان: 7/593-595]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزّل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا (136)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله.
- وبه عن سعيد بن جبيرٍ قوله: آمنوا باللّه يعني: بتوحيد اللّه.
- حدّثنا أبي، ثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، أنبأ عمران أبو العوّام القطّان عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
أنزل القرآن لأربعٍ وعشرين من رمضان.
قوله تعالى: والكتاب الّذي أنزل من قبل.
- حدّثنا عصام بن داود، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ قال: أنزل الكتاب عند الاختلاف.
قوله تعالى: ومن يكفر باللّه وملائكته الآية.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، قوله: ومن يكفر قال: كفر باللّه واليوم الآخر.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحي، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ عن سعيد بن جبيرٍ قوله: واليوم الآخر يعني: بالغيب الّذي فيه جزاء الأعمال.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكيرٍ، عن مقاتل بن حيّان قوله: فقد ضلّ يقول: فقد أخطأ).
[تفسير القرآن العظيم: 4/1090-1091]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} قال: فآمنوا كلهم.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله} الآية، قال: يعني بذلك أهل الكتاب كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل وأقروا على أنفسهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق فمنهم من صدق النّبيّ واتبعه ومنهم من كفر).
[الدر المنثور: 5/76]