تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ويستفتونك في النّساء قل اللّه يفتيكم فيهنّ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النّساء اللاّتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ وترغبون أن تنكحوهنّ والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خيرٍ فإنّ اللّه كان به عليماً (127)
وقوله تعالى: ويستفتونك الآية، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن
في المواريث وغير ذلك، فأمر الله نبيه أن يقول لهم اللّه يفتيكم فيهنّ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
وقوله تعالى وما يتلى عليكم يحتمل ما أن تكون في موضع خفض عطفا على الضمير في قوله فيهنّ، أي: «ويفتيكم فيما يتلى عليكم»، قاله محمد بن أبي موسى، وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض، ويحتمل أن تكون ما في موضع رفع عطفا على اسم الله عز وجل، أي و «يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب»، يعني القرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النّساء [النساء: 3]. قالت عائشة: نزلت هذه الآية أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء فنزلت: ويستفتونك في النّساء، قل اللّه يفتيكم فيهنّ وما يتلى عليكم وقوله تعالى في يتامى النّساء اللّاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ معناه: النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة الفقيرة أبدا، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر، وإلحاقها بأقرانها، وقرأ أبو عبد الله المدني- «في ييامى النساء» بياءين، قال أبو الفتح: والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء، كما قلبت في قولهم: باهلة بن يعصر، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله: [الكامل].
أبنيّ إن أباك غيّر لونه = كرّ الليالي واختلاف الأعصر
وكما قلبت الياء همزة في قولهم: قطع الله أده، يريدون يده، وأيامى: جمع أيم أصله: أيايم، قلبت اللام موضع العين، فجاء أيامى، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء، قال أبو الفتح: ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرها، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجها حسنا، وقوله تعالى وترغبون أن تنكحوهنّ إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة، قال له: أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع، وإذا قيل له: هي دميمة فقيرة، قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك، وقوله تعالى والمستضعفين من الولدان عطف على يتامى النّساء، والذي تلي في المستضعفين من الولدان هو قوله تعالى: يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء: 11]، وذلك: أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا يقولون: إنما يرث المال من يحمي الحوزة، ويرد الغنيمة، ويقاتل عن الحريم، ففرض الله لكل أحد حقه، وقوله تعالى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط عطف أيضا على ما تقدم، والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [النساء: 2] إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم، والقسط العدل، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل، بيّن). [المحرر الوجيز: 3/32-34]
تفسير قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصّلح خيرٌ وأحضرت الأنفس الشّحّ وإن تحسنوا وتتّقوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيراً (128) ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة وإن تصلحوا وتتّقوا فإنّ اللّه كان غفوراً رحيماً (129)
هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضررا يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتزيد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض، وهو مع وقوعها مباح أيضا، و «النشوز»: الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة، و «الإعراض»: أخف من النشوز، وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر على الاثرة، فهذا كله مباح، واختلف المفسرون في سبب الآية، فقال ابن عباس وجماعة معه: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل فنزلت وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً الآية، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم: نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى، فلما بقي من العدة يسير قال لها: إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني وأصبر، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر، فقال: إنما هي واحدة، فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة، وإلا طلقتك، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه وإن امرأةٌ خافت الآية، وقال مجاهد: نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصّالحا» بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها، وأصلها يتصالحا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد دون ألف، وقرأ عبيدة السلماني «يصالحا» بضم الياء من المفاعلة، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يصلحا» بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا، قال أبو الفتح: أبدل الطاء صادا ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا»، وقرأ الأعمش «إن اصالحا»، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود، وقوله صلحاً ليس الصلح مصدرا على واحد من هذه الأفعال التي قرئ بها، فالذي يحتمل أن يكون اسما كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت، فمن قرأ «يصلحا» كان تعديه إلى الصلح كتعديه إلى الأسماء، كما تقول: أصلحت ثوبا، ومن قرأ «يصالحا» من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرمة:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت = بها الوشي قرّات الرياح وخورها
ويجوز أن يكون الصلح مصدرا حذفت زوائده، كما قال:
... ... ... ... = وإن تهلك فذلك كان قدري
أي تقديري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على ان قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد، وقوله تعالى والصّلح خيرٌ لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة. وقوله تعالى وأحضرت الأنفس الشّحّ معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا حسن، والشّحّ: الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه ومن يوق شحّ نفسه [الحشر: 9] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلا؟ قال نعم». وأما الشّحّ ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى: وأحضرت الأنفس الشّحّ وقوله شحّ نفسه فقد أثبت أن لكل نفس شحا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحدا بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل، وقوله تعالى: وإن تحسنوا ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن وتتّقوا معناه: تتقوا الله في وصيته بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم»). [المحرر الوجيز: 3/34-38]