تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وأخبرني سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة أخبره أن ابن أبيرق الظفري كان سرق درعا من رجلٍ، فأخذ فرمى بها غيره فأغضبهم ذلك، وقالوا: أراد أن يعر أحسابنا، فكلموا رسول الله أن يقوم بعذره، فلما رجعوا من عند رسول الله أنزل الله على رسوله فأخبره خبره، فنزلت: {ولا تجادل عن الذين يختاتون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}، وما ذكر معها في ذلك الشأن، ثم قال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبينا}، فلو أنه تاب لقبل منه إن شاء الله؛ وكان قد دعي ولكنه حمى أنفه فخرج إلى قريش فلبث فيهم، فعثروا عليه قد سرق بعض ثياب الكعبة فقدموه فقتلوه.
وحدثني الليث بن سعد بهذا الحديث، وقال: سرق درعا من رجلٍ يهوديٍ فأخذ بها فرمي بها غيره). [الجامع في علوم القرآن: 1/94] (م)
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا جريرٌ، عن ليث، عن أبي هبيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد اللّه: إنّ في القرآن لآيتين، ما أذنب عبدٌ ذنبًا، ثمّ تلاهما واستغفر اللّه إلّا غفر له، فسألوه عنهما، فلم يخبرهم، فقال: علقمة والأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا، فقاما إلى المنزل، فأخذا المصحف، (فتصفّحا) البقرة، فقالا: ما رأيناهما، ثمّ أخذا في النّساء حتّى انتهيا إلى هذه الآية: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}، فقالا: هذه واحدةٌ، ثمّ (تصفّحا) آل عمران، حتّى انتهينا إلى قوله: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}، فقالا: هذه أخرى، ثمّ أطبقا المصحف، ثمّ أتيا عبد اللّه، فقالا: هما (هاتان الآيتان) ؟ فقال عبد الله: نعم). [سنن سعيد بن منصور: 4/1371-1372]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ أبو مسلمٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال: كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم: بنو أبيرقٍ بشرٌ وبشيرٌ ومبشّرٌ، وكان بشيرٌ رجلاً منافقًا يقول الشّعر يهجو به أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ ينحله بعض العرب ثمّ يقول: قال فلانٌ كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشّعر قالوا: واللّه ما يقول هذا الشّعر إلاّ هذا الخبيث، أو كما قال الرّجل، وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قال: وكانوا أهل بيت حاجةٍ وفاقةٍ، في الجاهليّة والإسلام، وكان النّاس إنّما طعامهم بالمدينة التّمر والشّعير، وكان الرّجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشّام من الدّرمك، ابتاع الرّجل منها فخصّ بها نفسه، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التّمر والشّعير، فقدمت ضافطةٌ من الشّام فابتاع عمّي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدّرمك فجعله في مشربةٍ له، وفي المشربة سلاحٌ ودرعٌ وسيفٌ، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطّعام والسّلاح، فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة، فقال: يا ابن أخي إنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسّسنا في الدّار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرقٍ استوقدوا في هذه اللّيلة، ولا نرى فيما نرى إلاّ على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرقٍ قالوا ونحن نسأل في الدّار: واللّه ما نرى صاحبكم إلاّ لبيد بن سهلٍ، رجلٌ منّا له صلاحٌ وإسلامٌ، فلمّا سمع لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ فواللّه ليخالطنّكم هذا السّيف أو لتبيّننّ هذه السّرقة، قالوا: إليك عنها أيّها الرّجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدّار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها، فقال لي عمّي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: إنّ أهل بيتٍ منّا أهل جفاءٍ، عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: سآمر في ذلك، فلمّا سمع بنو أبيرقٍ أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناسٌ من أهل الدّار، فقالوا: يا رسول الله إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه عمدا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ، يرمونهم بالسّرقة من غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ ترميهم بالسّرقة على غير ثبتٍ وبيّنةٍ قال: فرجعت، ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك، فأتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} بني أبيرقٍ {واستغفر اللّه} أي ممّا قلت لقتادة {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا (107) يستخفون من النّاس ولا يستخفون من الله وهو معهم}، إلى قوله: {غفورًا رحيمًا} أي: لو استغفروا اللّه لغفر لهم {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه}، إلى قوله: {وإثمًا مبينًا} قولهم للبيدٍ {ولولا فضل الله عليك ورحمته}، إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} فلمّا نزل القرآن أتى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّلاح فردّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لمّا أتيت عمّي بالسّلاح، وكان شيخًا قد عشا، أو عسا، في الجاهليّة، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلمّا أتيته بالسّلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحًا، فلمّا نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد ابن سميّة فأنزل اللّه {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا} فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعرٍ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثمّ خرجت به فرمت به في الأبطح، ثمّ قالت: أهديت لي شعر حسّان؟ ما كنت تأتيني بخيرٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نعلم أحدًا أسنده غير محمّد بن سلمة الحرّانيّ.
وروى يونس بن بكيرٍ، وغير واحدٍ هذا الحديث عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم يذكروا فيه عن أبيه، عن جدّه. وقتادة بن النّعمان هو: أخو أبي سعيدٍ الخدريّ لأمّه، وأبو سعيدٍ الخدريّ: سعد بن مالك بن سنانٍ). [سنن الترمذي: 5/94-97] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل ذنبًا، وهو السّوء، أو يظلم نفسه بإكسابه إيّاها ما يستحقّ به عقوبة اللّه {ثمّ يستغفر اللّه} يقول: ثمّ يتوب إلى اللّه بإنابته ممّا عمل من السّوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبّه اللّه من الأعمال الصّالحة الّتي تمحو ذنبه وتذهب جرمه، {يجد اللّه غفورًا رحيمًا} يقول: يجد ربّه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه، رحيمًا به.
واختلف أهل التّأويل فيمن عني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها الّذين وصفهم اللّه بالخيانة بقوله: {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم}.
وقال آخرون: بل عني بها الّذين كانوا يجادلون عن الخائنين، الّذين قال اللّه لهم: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا} وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.
قال أبو جعفرٍ: والصّواب من القول في ذلك عندنا أنّه عني بها كلّ من عمل سوءًا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الّذين ذكر اللّه أمرهم في الآيات قبلها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، قال: قال عبد اللّه: كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبًا أصبح قد كتب كفّارة ذلك الذّنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض، فقال رجلٌ: لقد أتى اللّه بني إسرائيل خيرًا. فقال عبد اللّه: ما آتاكم اللّه خيرًا ممّا آتاهم، جعل اللّه الماء لكم طهورًا، وقال: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم} وقال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: حدّثنا ابن عونٍ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، قال: جاءت امرأةٌ إلى عبد اللّه بن مغفّلٍ، فسألته عن امرأةٍ فجرت فحبلت، فلمّا ولدت قتلت ولدها، فقال ابن مغفّلٍ: ما لها؟ لها النّار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها، ثمّ قال: ما أرى أمرك إلاّ أحد أمرين: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} قال: فمسحت عينها ثمّ مضت.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} قال: أخبر اللّه عباده بحلمه وعفوه وكرمه، وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب صغيرًا كان أو كبيرًا ثمّ يستغفر اللّه، يجد اللّه غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السّموات والأرض والجبال). [جامع البيان: 7/474-476]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا (110)
قوله تعالى: ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه
- وبه عن ابن عبّاسٍ: ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا
يعني: الذين أتو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين بالكذب.
قوله تعالى: ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا.
- حدّثنا يونس بن حبيبٍ، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، أخبرني عثمان بن المغيرة قال: سمعت عليّ بن ربيعة الأسديّ عن أسماء أو ابن أسماء الفزاريّ قال: سمعت عليًّا يقول: كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثًا نفعني اللّه بما شاء به أن ينفعني، قال عليٌّ: وحدّثني أبو بكرٍ وصدق أبو بكرٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ما من عبدٍ يذنب ذنبًا ثمّ يتوضّأ ويصلّي ركعتين ثمّ يستغفر اللّه إلّا غفر له، ثمّ تلا هذه الآية ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد الله غفورا رحيما.
- حدّثنا يونس بن حبيبٍ، ثنا أبو داود، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن عليّ بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاريّ قال: سمعت عليًّا يقول: كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر نحوه.
- أخبرنا هاشم بن القاسم الحرّانيّ فيما كتب إليّ، ثنا محمّد بن سلمة عن محمّد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان قال: فلم نلبث أن نزلت ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا
أي لو استغفروا اللّه لغفر لهم). [تفسير القرآن العظيم: 3/1062-1063]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا أبو البختريّ عبد اللّه بن محمّد بن شاكرٍ، ثنا أبو عبد اللّه محمّد بن بشرٍ العبديّ، ثنا مسعر بن كدامٍ، عن معن بن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن أبيه، عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي اللّه عنه، قال: " إنّ في سورة النّساء لخمس آياتٍ ما يسرّني أنّ لي بها الدّنيا وما فيها {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النساء: 40] {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلًا كريمًا} [النساء: 31] {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابًا رحيمًا} {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110] " قال عبد اللّه: ما يسرّني أنّ لي بها الدّنيا وما فيها «هذا إسنادٌ صحيحٌ إن كان عبد الرّحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك»). [المستدرك: 2/334] (م)
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه} [النساء: 110]
- عن أبي الدّرداء عن نبيّ اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: «كان النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - إذا جلس وجلسنا حوله فأراد أن يقوم ترك نعليه أو بعض ما يكون عليه، وإنّه قام وترك نعليه، فأخذت ركوةً من ماءٍ فأدركته، فرجع ولم يقض حاجته، فقلت: يا رسول اللّه، ألم تكن لك حاجةٌ؟ قال: " بلى، ولكن أتاني آتٍ من ربّي فقال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110]، وقد كانت شقّت عليّ الآية الّتي قبلها: من يعمل سوءًا يجز به فأردت أن أبشّر أصحابي ". قلت: يا رسول اللّه، وإن زنا وإن سرق ثمّ استغفر غفر له؟ قال: " نعم "، ثمّ ثلّثت، قال:
" على رغم أنف أبي الدّرداء ". فأنا رأيت أبا الدّرداء يضرب أنفه بإصبعه».
رواه الطّبرانيّ، وفيه مبشّر بن إسماعيل، وثّقه ابن معينٍ وغيره، وضعّفه البخاريّ وغيره.
- وعن ابن مسعودٍ - رضي اللّه عنه - قال: كان الرّجل من بني إسرائيل إذا أذنب أصبح على بابه مكتوبٌ: أذنبت كذا وكذا، وكفّارته كذا من العمل، فلعلّه أن يتكاثره أن يعمله، قال ابن مسعودٍ: ما أحبّ أنّ اللّه - عزّ وجلّ - أعطانا ذلك مكان هذه الآية: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110].
رواه الطّبرانيّ، ورجاله رجال الصّحيح، إلّا أنّ ابن سيرين ما أظنّه سمع من ابن مسعودٍ، واللّه أعلم.
- وعن ابن مسعودٍ - رضي اللّه عنه - قال: إنّ في كتاب اللّه لآيتين، ما أذنب عبدٌ ذنبًا فقرأهما واستغفر اللّه إلّا غفر له: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه} [آل عمران: 135]، {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110].
رواه الطّبرانيّ، ورجاله رجال الصّحيح.
- وعن إبراهيم قال: قال عبد اللّه: إنّ في القرآن لآيتين، ما أذنب عبدٌ ذنبًا ثمّ تلاهما واستغفر اللّه إلّا غفر له. فسألوه عنهما فلم يخبرهم. فقال علقمة والأسود أحدهما لصاحبه: قم بنا، وقاما إلى المنزل، فأخذ المصحف فتصفّحنا سورة البقرة فقالا: ما رأيناهما، ثمّ أخذا في سورة النّساء حتّى انتهيا إلى هذه الآية: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110] فقالا: هذه واحدةٌ.
ثمّ تصفّحا آل عمران حتّى انتهيا إلى قوله: {والّذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذّنوب إلّا اللّه ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135]. قالا: هذه أخرى. ثمّ طبّقا المصحف، ثمّ أتيا عبد اللّه فقالا: هما هاتان الآيتان؟ قال: نعم.
رواه الطّبرانيّ، وإسناده جيّدٌ إلّا أنّ إبراهيم لم يدرك ابن مسعودٍ.
- وعن عبد اللّه - يعني ابن مسعودٍ - رضي اللّه عنه - قال: إنّ في النّساء لخمس آياتٍ، ما يسرّني بها الدّنيا وما فيها، وقد علمت أنّ العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلًا كريمًا} [النساء: 31]، وقوله: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النساء: 40]
و{إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] الآية، {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّابًا رحيمًا} [النساء: 64]، {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النساء: 110].
رواه الطّبرانيّ، ورجاله رجال الصّحيح). [مجمع الزوائد: 7/10-12]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عباس في قوله {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله} قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغير كان أو كبيرا ثم استغفر الله يجد الله غفورا رحيما ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا فقال ابن مسعود: ما آتاكم الله خير مما آتاهم جعل لكم الماء طهورا وقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر غفر له {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}، (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فتستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) (النساء الآية 48) الآية.
وأخرج ابن جرير عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ولما ولدت قتلت ولدها فقال: ما لها إلا النار، فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} فمسحت عينها ثم مضت.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه، عن علي، قال: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأن الله يقول {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}.
وأخرج أبو يعلى والطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما يكون عليه وأنه قام فترك نعليه فأخذت ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته فقال: إنه أتاني آت من ربي فقال: إنه {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} فأردت أن أبشر أصحابي، قال أبو الدرداء: وكانت قد شقت على الناس التي قبلها (من يعمل سوءا يجز به) (النساء الآية 123) فقلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق ثم استغفر ربه غفر الله له قال: نعم، قلت: الثانية، قال نعم، قلت: الثالثة، قال: نعم، على رغم أنف عويمر). [الدر المنثور: 4/690-692]
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه وكان اللّه عليمًا حكيمًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يأت ذنبًا على عمدٍ منه له ومعرفةٍ به، فإنّما يجترح وبال ذلك الذّنب وضرّه وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق اللّه، يقول: فلا تجادلوا أيّها الّذين تجادلون عن هؤلاء الخونة، فإنّكم وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا برآء ممّا أتوه من الذّنب ومن التّبعة الّتي يتّبعون بها، فإنّكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم، ولا تخاصموا.
وأمّا قوله: {وكان اللّه عليمًا حكيمًا} فإنّه يعني: وكان اللّه عالمًا بما تفعلون أيّها المجادلون عن الّذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتّى يجازي جميعكم بها {حكيمًا} يقول: وهو حكيمٌ بسياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه. وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرقٍ، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل). [جامع البيان: 7/476-477]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه وكان اللّه عليمًا حكيمًا (111)
قوله تعالى: ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيماً.
- حدّثنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: ثمّ ذكر قوله حين قال: أخذها أبو مليلٍ فقال: ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه وكان اللّه عليمًا حكيمًا). [تفسير القرآن العظيم: 3/1063]
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) )
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ أبو مسلمٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال: كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم: بنو أبيرقٍ بشرٌ وبشيرٌ ومبشّرٌ، وكان بشيرٌ رجلاً منافقًا يقول الشّعر يهجو به أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ ينحله بعض العرب ثمّ يقول: قال فلانٌ كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشّعر قالوا: واللّه ما يقول هذا الشّعر إلاّ هذا الخبيث، أو كما قال الرّجل، وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قال: وكانوا أهل بيت حاجةٍ وفاقةٍ، في الجاهليّة والإسلام، وكان النّاس إنّما طعامهم بالمدينة التّمر والشّعير، وكان الرّجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشّام من الدّرمك، ابتاع الرّجل منها فخصّ بها نفسه، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التّمر والشّعير، فقدمت ضافطةٌ من الشّام فابتاع عمّي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدّرمك فجعله في مشربةٍ له، وفي المشربة سلاحٌ ودرعٌ وسيفٌ، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطّعام والسّلاح، فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة، فقال: يا ابن أخي إنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسّسنا في الدّار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرقٍ استوقدوا في هذه اللّيلة، ولا نرى فيما نرى إلاّ على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرقٍ قالوا ونحن نسأل في الدّار: واللّه ما نرى صاحبكم إلاّ لبيد بن سهلٍ، رجلٌ منّا له صلاحٌ وإسلامٌ، فلمّا سمع لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ فواللّه ليخالطنّكم هذا السّيف أو لتبيّننّ هذه السّرقة، قالوا: إليك عنها أيّها الرّجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدّار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها، فقال لي عمّي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: إنّ أهل بيتٍ منّا أهل جفاءٍ، عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: سآمر في ذلك، فلمّا سمع بنو أبيرقٍ أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناسٌ من أهل الدّار، فقالوا: يا رسول الله إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه عمدا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ، يرمونهم بالسّرقة من غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ ترميهم بالسّرقة على غير ثبتٍ وبيّنةٍ قال: فرجعت، ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك، فأتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} بني أبيرقٍ {واستغفر اللّه} أي ممّا قلت لقتادة {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا (107) يستخفون من النّاس ولا يستخفون من الله وهو معهم}، إلى قوله: {غفورًا رحيمًا} أي: لو استغفروا اللّه لغفر لهم {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه}، إلى قوله: {وإثمًا مبينًا} قولهم للبيدٍ {ولولا فضل الله عليك ورحمته}، إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} فلمّا نزل القرآن أتى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّلاح فردّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لمّا أتيت عمّي بالسّلاح، وكان شيخًا قد عشا، أو عسا، في الجاهليّة، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلمّا أتيته بالسّلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحًا، فلمّا نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد ابن سميّة فأنزل اللّه {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا} فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعرٍ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثمّ خرجت به فرمت به في الأبطح، ثمّ قالت: أهديت لي شعر حسّان؟ ما كنت تأتيني بخيرٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نعلم أحدًا أسنده غير محمّد بن سلمة الحرّانيّ.
وروى يونس بن بكيرٍ، وغير واحدٍ هذا الحديث عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم يذكروا فيه عن أبيه، عن جدّه. وقتادة بن النّعمان هو: أخو أبي سعيدٍ الخدريّ لأمّه، وأبو سعيدٍ الخدريّ: سعد بن مالك بن سنانٍ). [سنن الترمذي: 5/94-97] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل خطيئةً، وهي الذّنب، أو إثمًا، وهو ما لا يحلّ من المعصية.
وإنّما فرّق بين الخطيئة والإثم، لأنّ الخطيئة قد تكون من قبل العمد وغير العمد، والإثم لا يكون إلاّ من العمد، ففصل جلّ ثناؤه لذلك بينهما، فقال: ومن يأت خطيئةً على غير عمدٍ منه لها، أو إثمًا على عمدٍ منه ثمّ يرم به بريئًا، يعني الّذي تعمّده بريئًا، يعني ثمّ يصف ما أتى من خطئه أو إثمه الّذي تعمّده بريئًا ممّا أضافه إليه ونحله إيّاه {فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} يقول: فقد تحمّل بفعله ذلك فريةً وكذبًا وإثمًا عظيمًا، يعني وجرمًا عظيمًا على علمٍ منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه.
واختلف أهل التّأويل فيمن عنى اللّه بقوله: {بريئًا} بعد إجماع جميعهم على أنّ الّذي رمى البريء من الإثم الّذي كان أتاه ابن أبيرقٍ الّذي وصفنا شأنه قبل. فقال بعضهم: عنى اللّه عزّ وجلّ بالبريء رجلاً من المسلمين يقال له لبيد بن سهلٍ.
وقال آخرون: بل عنى رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السّمين، وقد ذكرنا الرّواية عمّن قال ذلك فيما مضى. وممّن. قال كان يهوديًّا، ابن سيرين.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا غندرٌ، عن شعبة، عن خالدٍ الحذّاء، عن ابن سيرين: {ثمّ يرم به بريئًا} قال: يهوديًّا.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا بدل بن المحبّر، قال: حدّثنا شعبة، عن خالدٍ، عن ابن سيرين، مثله
وقيل: {يرم به بريئًا} بمعنى: ثمّ يرم بالإثم الّذي أتى هذا الخائن من هو بريءٌ ممّا رماه به، فالهاء في قوله {به} عائدةٌ على الإثم، ولو جعلت كنايةً من ذكر الإثم والخطيئة كان جائزًا، لأنّ الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها فراجعةٌ إلى معنًى واحدٍ بأنّها فعلٌ.
وأمّا قوله: {فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} فإنّ معناه: فقد تحمّل هذا الّذي رمى بما أتى من المعصية وركب من الإثم والخطيئة من هو بريءٌ ممّا رماه به من ذلك بهتانًا، وهو الفرية والكذب، وإثمًا مبينًا، يعني وزرًا مبينًا، يعني أنّه يبين عن أمرٍ متحمله وجراءته على ربّه وتقدّمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره). [جامع البيان: 7/477-479]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا (112)
قوله تعالى: ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا
يعني: السّارق والّذين جادلوا عن السّارق.
قوله تعالى: ثمّ يرم به بريئًا.
- أخبرنا هاشم بن القاسم الحرّانيّ فيما كتب إليّ، ثنا محمّد بن سلمة عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان في قصّة بني أبيرقٍ، فأنزل اللّه تعالى ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا
قولهم: للبيد بن سهلٍ.
- حدّثنا أبي، ثنا عمرو بن مرزوقٍ، أنبأ شعبة، عن خالدٍ الحذّاء عن ابن سيرين: ثمّ يرم به بريئًا
قال: يهوديًّا.
قوله تعالى: فقد احتمل بهتانًا.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا مسدّدٌ، ثنا أميّة بن خالدٍ، حدّثني فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة العوفيّ أنّ رجلا يقال له: طعمة بن أبيرقٍ سرق درعًا على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فرفع ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فألقاها في بيت رجلٍ، ثمّ قال لأصحابٍ له: انطلقوا فاعذروني عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّ الدّرع قد وجد في بيت فلانٍ فانطلقوا يعذرونه عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه تعالى: ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا قال: بهتانٌ: قذفه الرّجل.
قوله تعالى: وإثمًا مبينًا.
- حدّثنا عليّ بن (الحسين) ، ثنا معدّدٌ، ثنا أميّة يعني ابن خالدٍ، حدّثني فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة العوفيّ وإثمًا مبينًا
قال: إثمه: سرقته). [تفسير القرآن العظيم: 3/1063-1064]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن سيرين {ثم يرم به بريئا} قال: يهوديا). [الدر المنثور: 4/692]