تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وتولّى معناه أعرض، وأصل تولّى في المعنى أن يتعدى بحرف، فنقول تولى فلان عن الإيمان، وتولى إلى الإيمان، لأن اللفظة تتضمن إقبالا وإدبارا، لكن الاستعمال غلب عليها في كلام العرب على الإعراض والإدبار، حتى استغني فيها عن ذكر الحرف الذي يتضمنه، وحفيظاً يحتمل معنيين، أي ليحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه، أو ليحفظ مساوئهم وذنوبهم ويحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي الإعراض عن من تولى والترك له، وهي قبل نزول القتال وإنما كانت توطئة ورفقا من الله تعالى حتى يستحكم أمر الإسلام). [المحرر الوجيز: 2/610]
تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ويقولون طاعةٌ الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين، المعنى يقولون لك يا محمد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلا وقالوا غير ما أظهروا لك. وبيّت معناه فعل ليلا، فإما أخذ من بات، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها، ومن ذلك قول الشاعر [الأسود بن يعفر]: [المتقارب]
أتوني فلم أرض ما بيّتوا = وكانوا أتوني بأمر نكر
ومنه قول النمر بن تولب:
هبّت لتعذلني بليل اسمعي = سفها تبيتك للملامة فاهجعي
المعنى وتقول لي: اسمع، وزيدت الياء إشباعا لتصريع القافية واتباعا للياء، كقول امرئ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي وقوله بأمثل، وقرأ جمهور القراء بيّت بتحريك التاء، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد» وقوله: تقول يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد، ويحتمل، تقول هي لك، ويكتب معناه على وجهين، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء، وإما يكتبه في كتابه إليك، أي ينزله في القرآن ويعلم بها، قال هذا القول الزجّاج، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم. قال الضحاك: معنى «أعرض عنهم» لا تخبر بأسمائهم، وهذا أيضا قبل نزول القتال على ما تقدم. ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر، و «الوكيل» القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي، كالعريف والنقيب وغيره). [المحرر الوجيز: 2/610-611]
تفسير قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (82) وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتّبعتم الشّيطان إلاّ قليلاً (83)
المعنى: هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في صدر نبوتك، ألا يرجعون إلى النصفة. وينظرون موضع الحجة ويتدبرون كلام الله تعالى؟ فتظهر لهم براهينه، وتلوح أدلته، «والتدبر»: النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله يقتضيه قوله: أفلا يتدبّرون القرآن وهذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه، وذهب الزجّاج: إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به
مما يبيتون اختلافا، أي: فإذ تخبرهم به على حد ما يقع، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب، هذا معنى قوله، وقد بينه ابن فورك والمهدوي). [المحرر الوجيز: 2/611-612]