تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وما أرسلنا من رسولٍ إلّا ليطاع بإذن اللّه تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، وليطاع، نصب بلام كي، وبإذن اللّه معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله بإذن ب أرسلنا، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقها ب «يطاع» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، وتوّاباً: معناه راجعا بعباده). [المحرر الوجيز: 2/593-594]
تفسير قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً (65) ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاّ قليلٌ منهم ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً (66) وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً (67) ولهديناهم صراطاً مستقيماً (68)
قال الطبري: قوله: فلا رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، وربّك لا يؤمنون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي، وإظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، وشجر معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، ويحكّموك نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة، ويجدوا عطف عليه، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حرجاً، شكا، وقوله: تسليماً مصدر مؤكد، منبئ على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وكلّم اللّه موسى تكليماً [النساء: 164] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: «وعجت عجيجا من جدام المطارف».
وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء، فنزلت الآية، واختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله). [المحرر الوجيز: 2/594-596]