تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم: ربّنا إنّك من تدخل النّار فقد أخزيته، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء، خزي الرجل يخزى خزيا إذا افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره: كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزيا.
قال القاضي: أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى: وما للظّالمين من أنصارٍ هو من قول الداعين، وبذلك يتسق وصف الآية). [المحرر الوجيز: 2/448-449]
تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ربّنا إنّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربّكم فآمنّا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيّئاتنا وتوفّنا مع الأبرار (193) ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد (194)
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون: ربّنا قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون: «ربنا ربنا» حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت ينادي بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان»، وقوله: أن آمنوا «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، والأبرار جمع بر، أصله برر على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل: هو جمع بار كصاحب وأصحاب، والمعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم). [المحرر الوجيز: 2/449]
تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك معناه: على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش «رسلك» بسكون السين، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه: اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل: معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره: معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا، وقولهم: ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، إشارة إلى قوله تعالى: يوم لا يخزي اللّه النّبيّ والّذين آمنوا معه [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود). [المحرر الوجيز: 2/450]
تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالّذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولأدخلنّهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللّه واللّه عنده حسن الثّواب (195)
«استجاب» استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله: أنّي يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني»، وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من الله تعالى: أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله: من ذكرٍ تبيين لجنس العامل، وقال قوم: من زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى: بعضكم من بعضٍ يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضا إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، واللّه يضاعف لمن يشاء [البقرة: 261] و «هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة، وقوله تعالى: وأخرجوا من ديارهم عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده: [الطويل] (وردني = إلى الله من طردت كل مطرد) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت طردتني كل مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير: [البسيط]
في عصبة من قريش قال قائلهم = ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف = عند اللّقاء ولا ميل معازيل
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: «وقاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير: «وقاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي: «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه: إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى: فما وهنوا لما أصابهم [آل عمران: 146] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: و «قتلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف، و «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار: «وقتلوا» بفتح القاف «وقاتلوا»، وقرأ طلحة بن مصرف: «وقتّلوا» بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبة الواو، وإما أنه قاتل من بقي، واللام في قوله: لأكفّرنّ لام القسم وثواباً مصدر مؤكد مثل قوله: صنع اللّه [النمل: 88] وكتاب اللّه عليكم [النساء: 24] وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/450-453]