تفسير قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: كلّ نفسٍ ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النّار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور (185)
والمعنى: كل نفس مخلوقة حية، والذوق هنا: استعارة وإنّما حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن المعنى: أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب، وزحزح معناه: أبعد، والمكان الزحزح: البعيد، وفاز معناه: نجا من خطره وخوفه، والغرور، الخدع والترجية بالباطل، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين، قال عبد الرحمن بن سابط: متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن، قال الطبري: ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره.
قال القاضي: والغرور في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في المثل: غش ولا تغتر، أي لا تجتز بما لا يكفيك، وقال عكرمة: متاع الغرور، القوارير أي لا بد لها من الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من عكرمة، وقرأ عبد الله بن عمر «الغرور» بفتح الغين، وقرأ أبو حيوة والأعمش: ذائقة بالتنوين الموت بالنصب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ثم تلا هذه الآية). [المحرر الوجيز: 2/436-437]
تفسير قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور (186) وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون (187)
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى: ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك قول فنحاص: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة
إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره: نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و «الأذى»: اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و «العزم»: إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزما إلا على مقطع المشيخين من فتاك العرب كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه = ونكّب عن ذكر الحوادث جانبا
وقال النقاش: العزم والحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين.
قال القاضي: وهذا خطأ، والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، و «العزم»:
قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت [آل عمران: 159] فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم). [المحرر الوجيز: 2/438-439]