تفسير قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرّسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمًّا بغمٍّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم واللّه خبيرٌ بما تعملون (153)
العامل في إذ قوله: عفا [آل عمران: 152] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه: ذهب في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب، «إذ تصعدون في الوادي».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه:
دخل في الصعيد، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل: [الرجز]
قد كنت تبكين على الإصعاد = فالآن صرّحت وصاح الحادي
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تصعدون» بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر، وقوله تعالى: ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟
وهذا أشد من قول امرئ القيس: [الطويل] أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون» بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم «ولا تلون» بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تلوون» بضم التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس «على أحد» بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: إليّ عباد الله، والناس يفرون. وفي قوله تعالى: في أخراكم مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: فأثابكم معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله: [الوافر] تحيّة بينهم ضرب وجيع وكقول الآخر: [الفرزدق]: [الطويل]
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه = أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: غمًّا بغمٍّ فقال قوم: المعنى «أثابكم غما» بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم: «أثابكم غما بغم»، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم، وهذه باء الجر المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد: الغم الأول أن سمعوا: ألا إن محمدا قد قتل، والثاني، القتل والجراح الواقعة فيهم، وقال الربيع وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضا وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا، وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة- أحد- اختلافا كثيرا، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية، وقوله تعالى: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم معناه: من الغنيمة وما أصابكم معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واللام من قوله: لكيلا متعلقة بأثابكم، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى: واللّه خبيرٌ بما تعملون توعد). [المحرر الوجيز: 2/388-392]
تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم ....
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه:
اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا، وقال الزبير بن العوام، لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال ابن مسعود: نعسنا يوم- أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وقرأ جمهور الناس «أمنة» بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمنة» بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: نعاساً بدل، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملا على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى» بالتاء حملا على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه، والواو في قوله تعالى: وطائفةٌ قد أهمّتهم هي واو
الحال كما تقول: جئت وزيد قائم، قاله سيبويه وغيره قال الزجّاج: وجائز أن يكون خبر قوله وطائفةٌ قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى: قد أهمّتهم أنفسهم ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم: إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى:
أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب:
أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين: أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أهمتهم أنفسهم المكاشفة. ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال.
قوله تعالى: ... يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة يقولون هل لنا من الأمر من شيءٍ قل إنّ الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم واللّه عليمٌ بذات الصّدور (154)
قوله تعالى: غير الحقّ معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب، وقوله: ظنّ الجاهليّة ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال: حميّة الجاهليّة [الفتح: 26] وتبرّج الجاهليّة [الأحزاب: 33]، وكما تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله تعالى: يقولون هل لنا من الأمر من شيءٍ حكاية كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول: قتل بنو الخزرج فقال: «وهل لنا من الأمر من شيء» ؟ يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكأن كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى: قل إنّ الأمر كلّه للّه اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ جمهور القراء «كلّه» - بالنصب على تأكيد الأمر، لأن «كله» بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلّه لله» برفع كل على الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل»، وقوله تعالى: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يحتمل أن يكون إخبارا عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى: يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدرا، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى: قل لو كنتم في بيوتكم الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل، وقرأ جمهور الناس «في بيوتكم» بضم الباء، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بيوتكم»، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس «لبرز» بفتح الراء والباء على معنى: صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة «لبرّز» بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس: «عليهم القتل» أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن والزهري: «عليهم القتال» وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى: وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم الآية، اللام في قوله تعالى: وليبتلي متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء أزلا، و «ذات الصدور» ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية). [المحرر الوجيز: 2/392-396]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم إنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (155)
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى: إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفا لقتال، وأسند الطبري رحمه الله قال: خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان، قال: لما كان يوم- أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى، والناس يقولون قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها، قال قتادة: هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه الزلة، قال ابن فورك: لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلا، أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الأنصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره: إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليهم صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.
قال القاضي: جعل الفرار إلى الجبل تحيزا إلى فئة، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا، منهم رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن إسحاق: فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زرقيان، حتى بلغوا الجعلب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة، قال ابن زيد: فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة؟ أم عن المؤمنين جميعا؟ و«استزل» - معناه طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه، وقوله تعالى: ببعض ما كسبوا ظاهره عند جمهور المفسرين: أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما اكتسبوه أيضا هم من الفرار، وذهب الزجّاج وغيره: إلى أن المعنى، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، قال المهدوي: بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله: ببعض ما كسبوا إلى هذه العبرة، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج: معنى الآية، عفا اللّه عنهم إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها). [المحرر الوجيز: 2/396-398]