تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين (142) ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)
أم هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام، وحسبتم معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد، وقوله: ولمّا يعلم نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل: كان كذا، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه: وقرأ جمهور الناس: بكسر الميم للالتقاء في قوله: ولمّا يعلم وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي: «ولما يعلم» بفتح الميم اتباعا لفتحة اللام، وقرأ الجمهور «ويعلم» على النصب بإضمار- أن- عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ: «ويعلم» بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد: «ويعلم» بكسر الميم جزما معطوفا على قوله ولمّا يعلم). [المحرر الوجيز: 2/369]
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم خاطب المؤمنين بقوله: ولقد كنتم تمنّون الموت والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد- وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم، وقرأ الجمهور: «من قبل أن تلقوه»، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث- لقي- معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ مجاهد «من قبل» بضم اللام وترك الإضافة، وجعل أن تلقوه بدلا من الموت، وقوله تعالى: فقد رأيتموه يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر: رأيت البلايا، تحمل المنايا، وكما قال الحارث بن هشام: [الكامل]
ووجدت ريح الموت من تلقائهم = في مأزق والخيل لم تتبدد
يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه يريد لما اشتد به المرض، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه»، وقوله تعالى: وأنتم تنظرون يحتمل ثلاثة معان: أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر أن يكون المعنى وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا: المعنى: وأنتم تنظرون إلى محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟
والاضطراب بحسب ذلك، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب: وأنتم تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال: وأنتم حسباء أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء، قال ابن فورك: المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما تقدم). [المحرر الوجيز: 2/369-371]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشّاكرين (144) وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن اللّه كتاباً مؤجّلاً
هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، وخلت معناه مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجيء تنكير «الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى: وقليلٌ من عبادي الشّكور [سبأ: 13] وقوله تعالى: وما آمن معه إلّا قليلٌ [هود: 40] إلى غير ذلك من الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام، وقوله تعالى: أفإن مات الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، وقال كثير من
المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.
قال الفقيه القاضي أبو محمد رحمه الله: وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله: أولو كان آباؤهم [البقرة: 170، المائدة: 104] ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فلن يضرّ اللّه شيئاً لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال الفقيه أبو محمد: فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، قال ابن إسحاق معنى وسيجزي اللّه الشّاكرين أي من أطاعه وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره: أنه قال في تفسير هذه الآية: «الشاكرون»: الثابتون على دينهم، أبو بكر وأصحابه وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، وما محمّدٌ إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه). [المحرر الوجيز: 2/371-374]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك: وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، والعبارة بقوله: وما كان قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [النمل: 60] فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية: اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله: كتاباً نصب على التمييز ومؤجّلًا صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى: ويؤخّركم إلى أجلٍ مسمًّى [نوح: 4] ونحو هذا من الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ... ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشّاكرين (145)
قوله تعالى: نؤته منها مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى:
من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء: 18]، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله: ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي». كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن فورك: في قول الله تعالى: وسنجزي الشّاكرين إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة). [المحرر الوجيز: 2/374-375]