تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله: من دونكم يعني من دون المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله، وقوله: لا يألونكم خبالًا معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم، تقول: ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير:
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم = فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا
أي لم يقصروا، والخبل والخبال: الفساد، وقال ابن عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال أيضا ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: نزلت في المنافقين: نهى الله المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فسره الحسن بن أبي الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم (محمدا).
قال القاضي: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل لعمر:
إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين، وما في قوله، ما عنتّم مصدرية، فالمعنى: ودّوا عنتكم، و «العنت»: المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله تعالى: ذلك لمن خشي العنت [النساء: 35] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي: معناه «ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى «ودوا» أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى: قد بدت البغضاء من أفواههم يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همسا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، وقوله: وما تخفي صدورهم أكبر إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء» بتذكير الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون تحذيرا وتنبيها، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا). [المحرر الوجيز: 2/330-332]
تفسير قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119)
تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفا: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ [آل عمران: 66] والضمير في تحبّونهم لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله: بطانةً من دونكم [آل عمران: 118] والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم، وقوله تعالى: عضّوا عليكم الأنامل عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب: [الطويل]
... ... ... ... = (يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل)
ومنه قول الآخر:
وقد شهدت قيس فما كان نصرها = قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع، وقوله وتؤمنون بالكتاب كلّه يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم: آمنّا معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم آمنّا، «عض الأنامل من الغيظ»، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
قل موتوا بغيظكم، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة، قال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:
وننمي في ارومتنا = ونفقأ عين من حسدا
وينظر إلى هذا المعنى في قوله، موتوا بغيظكم قوله تعالى: فليمدد بسببٍ إلى السّماء ثمّ ليقطع [الحج: 15]، وقوله: إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في موتوا بغيظكم و «ذات الصدور»: ما تنطوي عليه، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ومنه قولهم: الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات»: لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه). [المحرر الوجيز: 2/333-335]
تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)
«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر: [البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى إزالتها = إلّا عداوة من عاداك من حسد
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، وأوجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى: وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «لا يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة، وحكى الكسائي: ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب الله لا ضير [الشعراء: 50] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها = مطبّعة من يأتها لا يضيرها
يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير:
وقال أناس لا يضيرك نأيها = بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «لا يضرّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر يضر، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت الراء للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فأما الكسر فلا أعرفها قراءة، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه، ويجوز أيضا أن يكون إعراب قوله، «لا يضركم»، رفعا إما على تقدير، فليس يضركم، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله]: [الرجز]
يا أقرع بن حابس يا أقرع = إنّك إن يصرع أخوك تصرع
المراد أنك تصرع، وقرأ أبي بن كعب: «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها قوله تعالى في الآية إن تمسسكم ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و «الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: وأكيد كيداً [الطارق: 16] إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى: إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد). [المحرر الوجيز: 2/335-337]