تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق النصارى، ومجيء البيّنات هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وأسند الفعل دون علامة إلى البيّنات، من حيث نزلت منزلة البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله: عذابٌ عظيمٌ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من هذا وذلك فسواء، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم الله). [المحرر الوجيز: 2/312]
تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم ففي رحمت اللّه هم فيها خالدون (107)
والعامل في قوله يوم الفعل الذي تتعلق به اللام، في قوله ولهم عذابٌ عظيمٌ [آل عمران: 105] قال الزجاج: تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم.
قال القاضي: وذلك ضعيف من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب، لأنه مصدر قد وصف، «وبياض الوجوه»: عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله، قال الزجّاج- وغيره-: ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام، أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء، وأما «سواد الوجوه»، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغمم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك تسويدا ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقا وهذه أقبح طلعة، ومن ذلك قول بشار: [البسيط]
وللبخيل على أمواله علل = زرق العيون عليها أوجه سود
وقرأ يحيى بن وثاب، «تبيض وتسود» بكسر التاء، وقرأ الزهري، «تبياض» وجوه، و «تسواد» وجوه بألف، وهي لغة، ولما كان صدر هذه الآية، إخبارا عن حال لا تخص أحدا معينا، بدئ بذكر البياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى، فلما فهم المعنى، وتعين له «الكفار والمؤمنون»، بدئ بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم، وقوله تعالى: أكفرتم تقرير وتوبيخ، متعلق بمحذوف، تقديره، فيقال لهم: أكفرتم؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما»، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه، كقوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ [البقرة: 184] المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى: بعد إيمانكم يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيمانا متقدما، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم، فقال أبي بن كعب: الموقفون جميع الكفار، والإيمان الذي قيل لهم بسببه بعد إيمانكم هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم- ألست بربكم؟ قالوا بلى- وقال أكثر المتأولين: إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسن: الآية في المنافقين، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم، فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم، وقال السدي: هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا، وقال أبو أمامة: الآية في الخوارج وقال قتادة: الآية في أهل الردة، ومنه الحديث: ليردن عليّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: فسحقا فسحقا، وفي بعض طرقه: فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، وذكر النحاس قولا: إن الآية في اليهود، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به، فلما جاءهم من غيرهم كفروا، فهذا كفر بعد إيمان، وروي عن مالك أنه قال: الآية في أهل الأهواء.
قال القاضي: إن كان هذا ففي المجلحين منهم القائلين ما هو كفر، وروي حديث: أن الآية في القدرية وقال أبو أمامة: سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها في الحرورية، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد، وما في قوله بما كنتم مصدرية). [المحرر الوجيز: 2/312-314]
تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ففي رحمت اللّه أي في النعيم الذي هو موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك هم فيها تأكيد بجملتين، إذ كان الكلام يقوم دونها). [المحرر الوجيز: 2/314]
تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحقّ وما اللّه يريد ظلماً للعالمين (108) وللّه ما في السّماوات وما في الأرض وإلى اللّه ترجع الأمور (109) كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)
الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين، ولما كان فيها ذكر التعذيب، أخبر تعالى: أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى، وقوله تعالى: بالحقّ معناه: بالإخبار الحق، ويحتمل أن يكون المعنى: نتلوها عليك مضمنة الأفاعيل التي هي «حق» في أنفسها، من كرامة قوم، وتعذيب آخرين، وقرأ أبو نهيك: «يتلوها» بالياء، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلما في حكمه، فإذا لا يوجد). [المحرر الوجيز: 2/315]
تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن «الحق» لا يعترض عليه، وذلك في قوله، وللّه ما في السّماوات وما في الأرض الآية، وقال: ما ولم يقل «من» من حيث هي جمل وأجناس، وذكر الطبري: أن بعض البصريين نظر قوله تعالى: وإلى اللّه فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء = نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
[المحرر الوجيز: 2/315]
وما جرى مجراه، وقاله الزجّاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع، وقرأ بعض السبعة، «ترجع الأمور» بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك). [المحرر الوجيز: 2/315-316]