تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيدٌ على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (99)
هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب التوراة، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون، و «آيات الله» يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: واللّه شهيدٌ على ما تعملون وعيد محض: أي يجازيكم به ويعاقبكم، قال الطبري: هاتان الآيتان قوله، قل يا أهل الكتاب لم تكفرون وما بعدهما، إلى قوله أولئك لهم عذابٌ عظيمٌ [آل عمران: 105]، نزلت بسبب رجل من يهود، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج، قال ابن إسحاق: حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، قال شاش ابن قيس اليهودي، وكان شيخا قد عسى في الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، والحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وصلاح ذات بينهم، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال أمد إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله من أيام حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان: وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، يريدون الحرة، فخرجوا إليها، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات، وقال الحسن وقتادة والسدي: إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام، بأن يقولوا لهم، إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك). [المحرر الوجيز: 2/300-302]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و «صد» معناه: أعرض عن الشيء وانصرف عنه، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد، تقول: صددت عن كذا، وصددت غيري عنه، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تصدون» بضم التاء وكسر الصاد، وهذا هو الفعل الواقف، نقل بالهمزة فعدي، وسبيل اللّه في هذه الآية، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته، ومن مفعولة ب تصدّون والضمير في تبغونها عائد على السبيل، ومعنى «تبغون» على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما: تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج، أي الاعوجاج والانفساد، تقول العرب: أبغني كذا بألف موصولة، بمعنى اطلبه لي، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي، قطعوا الألف مفتوحة وقيل: إن تبغون هنا، من البغي الذي هو التعدي، أي تبغون عليها، ويكون، عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في «تبغون» أي «عوجا» منكم وعدم استقامة، والعوج بكسر العين: ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعوج بفتح العين، ما كان في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك، قال ابن قتيبة: والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها: عوج بكسر العين، ومنه قول الله تعالى: لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً [طه: 107] قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد، وقوله تعالى: وأنتم شهداء، يريد جمع شاهد، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه، وباقي الآية وعيد). [المحرر الوجيز: 2/302]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه وفيكم رسوله ومن يعتصم باللّه فقد هدي إلى صراطٍ مستقيمٍ (101)
الخطاب بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا عام في المؤمنين، والإشارة بذلك- وقت نزوله- إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس، و «الفريق» - الجماعة من الناس والمراد بها هنا الأحبار والرؤوس، ويردّوكم معناه: بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح). [المحرر الوجيز: 2/302-303]
تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي يريده بهم اليهود، فقال وكيف تكفرون وأنتم بهذه الأحوال الموصوفة؟ وكيف في موضع نصب على الحال، كما هي في قوله تعالى: كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم [البقرة: 28] والمعنى أجاحدين تكفرون؟
أجاهلين أمستخفين أمرتدين؟ ونحو هذا من التقدير والواو في قوله: وكيف تكفرون عاطفة جملة كلام على جملة كلام، ولا يجوز أن تكون كيف في هذه الآية كما هي في قولك، كيف تفعل كذا، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصلة، لأنه كان يلزم أن يكون كفر المؤمنين مقررا مثبت الوقوع، وتأمل معنى كيف إذا وليها فعل، ومعناها إذا وليها اسم، وقرأ جمهور الناس «تتلى» بالتاء من فوق، وقرأ الحسن:
«يتلى» بالياء إذا الآيات هي القرآن، وقوله تعالى: وفيكم هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه السلام، وهو في أمته إلى يوم القيامة، بأقواله وآثاره، ويعتصم معناه: يتمسك ويستذري، وعصم الشيء إذا منع وحمي، ومنه قوله يعصمني من الماء [هود: 43] والعصم الأسباب التي يمتّ بها، ويعتصم من الخيبة في الغرض المطلوب، وقال الأعشى: [المتقارب]
إلى المرء قيس أطيل السّرى = وآخذ من كلّ حيّ عصم
وتصرف اللفظة كثير جدا، وباقي الآية بيّن، والله المستعان). [المحرر الوجيز: 2/303-304]